كانت ثورات الربيع العربي النتيجة التي رسمتها القوى الغربية في إطار مشروع "الحزام الأخضر" الذي صاغه الأميركيان هنري كيسينجر وزبيغنيو بريجنسكي، من خلال توظيف الإسلاميين الذين لطالما عملوا تحت ظل صدمة إلغاء الخلافة الإسلامية في إسطنبول (3 آذار/مارس 1924)، إذ كانت الحكومات الوطنية في نظرهما طوال الوقت حكومات غير شرعية وعميلة للغرب، يجب التخلص منها والعمل على دفع أذهان الناس نحو ذلك باسم الشريعة وإقامة الدولة العادلة! وهو ما جعل القوى الغربية في النهاية تصبح الملاذ لكلا الطرفين، الحكومة والمعارضة الإسلامية!
وقد امتد ذلك الحزام أيضاً إلى المنطقة التي أفرخت لنا معظم الحركات الإسلامية بأشكالها في عالمنا، أو حتى استمدت منها أفكارها، وهي منطقة شبه القارة الهندية، حيث ظهرت "حركة الخلافة" في الهند في الفترة ما بين 1919 - 1924، والتي قادها الشقيقان محمد علي وشوكت علي؛ بهدف الدعوة إلى مناصرة الخلافة العثمانية، باعتبار أن الحفاظ على قوتها يحمي المصالح القومية للهنود المسلمين؛ بينما سقوطها يُضعف موقفهم أمام الاستعمار البريطاني.
وهو ما تطور بعد ذلك، بظهور دول تحت مبدأ القومية الإسلامية، مثل باكستان التي أعلنت استقلالها في 14 آب (أغسطس) 1947. وقبل هذا التاريخ، ظهرت حركة الجماعة الإسلامية، أكبر الجماعات في باكستان التي أسسها أبو الأعلى المودودي عام 1941؛ وغايتها قيام الدولة الإسلامية في إطار نظرية جامعة عالمية.
لكن المفارقة أن الولايات المتحدة الأميركية لم تخش يوماً من توسع تلك الجماعات، فالمبدأ البراغماتي "الغاية تبرر الوسيلة"، يجعلها قادرة على التعامل مع كل مَن يحقق لها أهدافها. ويمكن أن نقول إن أميركا طبقتْ ببراعة المثل المصري "من ذقنه، وافتلْ له"! فهي استطاعت أن تغازل أحلام الإسلاميين في آسيا الوسطى، وصنعت لهم حركة "طالبان" الأفغانية (طالبان: جمع طالب باللغة الفارسية)، باسم محاربة الإلحاد والشيوعية التي تنشرها الدولة السوفياتية، حتى حكمت تلك الحركة دولة أفغانستان عام 1996 ثم أسقطتها الولايات المتحدة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2001، بذريعة إيوائها تنظيم "القاعدة". ثم عادت تلك الحركة إلى حكم أفغانستان في 15 آب (أغسطس) 2021، تزامناً مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان.
والآن بعد ثلاث سنوات على هذه العودة، نجد أثر حركة "طالبان" بإعلانها قيام "إمارة أفغانستان الإسلامية"، يمتد إلى مناطق محيطة في آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية. وهو ما يمثل فصلاً جديداً من فصول اللعبة التي تجيدها الولايات المتحدة الأميركية، بأن تصنع أطرافاً متصارعين، جميعهم في حاجة إلى غربي يهمسُ في آذانهم!
نصر إلهي بدعم أميركي!
يوم الأربعاء 14 آب 2024، احتفلت "طالبان" بعودتها إلى حكم كابول، من خلال استعراض عسكري في القاعدة الجوية الأميركية السابقة (باغرام). وكان بيان رئيس وزراء "طالبان" الملا محمد حسن آخوند، يؤكد مسألة النصر الإلهي، قائلاً: "في هذا التاريخ، منح الله دولة أفغانستان المقاتلة نصراً حاسماً على قوات الاحتلال الدولية"، مضيفاً: "البلاد يجب أن تستمر في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية".
كان القائد السابق للقوات الأجنبية في أفغانستان ديفيد بترايوس، يؤكد أن هناك اتفاقاً تم مع حركة "طالبان" عبر مكتب الدوحة، يدعم عودة تلك الجماعة المسلحة الى حكم أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي.
يبدو الأمر سخرية واضحة بين رؤيتين، تتكرران دائماً في بلادنا، إذ كانت "طالبان" تروج لنصر إلهي على حكومة عميلة كافرة، والإسلاميون في إيران وباكستان وتركيا وبقية عالمنا الإسلامي كانوا يروجون لتراجع قوة الولايات المتحدة، بينما واقع الأمر، كانت أميركا التي تدير اللعبة قد قلبتْ كل الحسابات وصنعت لاعباً جديداً في المنطقة، الكل يتودد له لاتقاء شره! في وقت تصعد الصين وتبحث إيران مع جيرانها الروس عن تكتلات إقليمية.
ولذلك، إذا نظرنا إلى أثر عودة "طالبان" إلى الحكم، من إحياء لفكرة الدولة الإسلامية والبحث عن تكرار لنموذج تلك الإمارة الإسلامية في دول مثل باكستان وأطراف إيران وجمهوريات آسيا الوسطى المحاذية للصين والهند، ندرك أن قرار الولايات المتحدة وحلفائها الانسحاب المفاجئ من أفغانستان لم يكن بدافع الضرورة، بل تركتها وهي تحمل في نفسها أهدافاً جيواستراتيجية.
اعتراف المُكرهين!
بعد ثلاث سنوات من وصول "طالبان" إلى السلطة، لم يستطع أحد حتى الآن أن يقنعها بتشكيل حكومة شمولية، بل نجحت الحركة المسلحة في ظل حكومة موقتة أن تجذب الجميع حولها من الشرق والغرب. حتى إنها حصلت على اعتراف ضمني من جميع جيرانها تقريباً، باسم سلطة الأمر الواقع، إذ لديهم مخاوف حقيقية من الهجرة والمخدرات والتطرف، ولديهم أيضاً أطماع في ممرات أفغانستان ومواردها من المعادن؛ فهي دولة غير ساحلية تربط جغرافياً شرق آسيا بوسط وجنوب آسيا وكذلك جنوب غرب آسيا، وتحيط بها جغرافياً 6 دول هي: إيران، باكستان، الصين، طاجيكستان، أوزبكستان، تركمانستان.
وكذلك لديها موارد غنية بالنحاس والحديد والكبريت والفضة والليثيوم والتيتانيوم والألومينيوم والملح الصخري وغيرها من العناصر النادرة. فهي تمتلك أكبر احتياطيات الليثيوم في العالم، وهي مادة مهمة للغاية في صناعة تخزين الطاقة والصناعات الإلكترونية، لدرجة أنهم يقولون إن القرن الحادي والعشرين هو قرن الليثيوم! بينما هؤلاء الجيران الفرحون بعودة "طالبان"، لا تشغلهم مطالب الحريات العامة وقضايا حقوق الإنسان والمرأة في أفغانستان. وهنا سيأتي دور القوى الغربية، حيث تلك القضايا ذرائعها لترويض "طالبان" الدينية المسلحة!
وتشير هذه الدلائل إلى أنه لا تغيير مقبلاً في أفغانستان، إذ لا يشعر قادة "طالبان" بأي ضغط حقيقي من الخارج. ولذلك فلا غرابة في أن يستمروا في استغلال ورقة الجماعات المتطرفة والمسلحة، مثل: حركة "طالبان-باكستان" والجماعات الانفصالية وتنظيم "داعش-خراسان" وتنظيم "القاعدة"، في إدارة علاقاتهم مع العالم الخارجي الذي لا يريد أن يعترف بهم رسمياً!