"عراق مصغر" هي كركوك. المدينة التي تدفقت فيها أول بئر نفط عراقية عام 1927. أما لماذا هي عراق مصغر فلأن تركيبتها السكانية تجسد الفسيفساء البشرية العراقية. تعدد في اللغات والأديان والإثنيات يرافقه انسجام عضوي في الروح المدنية التي أشاعتها شركات النفط الأجنبية. كان العرب والأكراد والتركمان هم الأبرز في تلك التركيبة التي يجيد أفرادها اللغات الثلاث. وفي تاريخ الحداثة الأدبية العراقية برزت في ستينات القرن العشرين جماعة كركوك ومنها سركون بولص وفاضل العزاوي وزهدي الداووي وصلاح فائق وجليل القيسي وجان دمو ومؤيد الراوي وأنور الغساني الذين كتبوا أشعارهم وقصصهم باللغة العربية من غير أن يكونوا مهتمين بالإعلان عن إثنيتهم أو ديانتهم. كانت تلك الجماعة صورة عن كركوك الذاهبة إلى حداثتها المدنية. وفي كركوك صدرت في الوقت نفسه مجلة "العاملون في النفط" التي كان جبرا إبراهيم جبرا يرأس تحريرها. وعُرفت تلك المجلة بتبنيها الاتجاهات المعاصرة في الفن والأدب. كانت كركوك نافذة يطل من خلالها العراق على التنوير. فما الذي جعل منها باباً يفضي إلى ضياع الوحدة العراقية بما يجعل منها لغماً قابلاً للانفجار بالعراق كله؟ لم يكن هناك تنافس بين القوميات على السيادة على المدينة يوم كانت المواطنة هي المقياس. وفي ظل دولة مركزية قوية عاصمتها بغداد لم تكن كركوك سوى جزء حيوي من العراق. غير أن كركوك تغيرت حين تغير العراق. انفجرت حين تشظى العراق.
العيب في الدستور
قال جلال الطالباني يوم كان رئيساً لجمهورية العراق "كركوك هي قدس الأقداس بالنسبة للأكراد". لم ينس الرجل تعصبه لكرديته، رغم أن منصبه بحسب الدستور يمنعه من القيام بذلك، فهو رئيس العراق الموحد الذي يضم كل العراقيين. غير أن الخطأ ليس في الطالباني بل في المحكمة الاتحادية التي لم تحاسبه على تصريحه غير القانوني. في الأساس كانت هناك ثغرة في القانون العام. لقد ضُمّت كركوك إلى المناطق المتنازع عليها بين العراق وإقليم كردستان. وهنا بالضبط تكمن واحدة من مهازل العراق الجديد الذي خطط الغزاة الأميركيون لإبقائه ممزقاً. فالمناطق المتنازع عليها هي فقرة في النزاع بين دولتين، أما أن يدخل العراق في نزاع مع إقليم هو جزء منه فتلك مكيدة تنفتح على غايات شريرة. وهو ما صار واضحاً بمرور الزمن رغم أن الأحزاب الشيعية التي تحكم العراق وضعت المادة 140 من الدستور وهي مادة المناطق المتنازع عليها خلف ظهرها. وإذا ما استعدنا تصريح الطالباني يمكن القول إن عيون الأكراد كانت مصوبة على كركوك دون سواها من المناطق الأخرى التي لو جُمعت لفقد العراق ثلث مساحته. غير مرة كادت الحرب تشتعل في كركوك بين الميليشيا الكردية (ييشمركة) وميليشيات الحشد الشعبي لولا أن الأكراد فضلوا الانسحاب بأمان. غير أن ذلك لا يعني أنهم تخلوا عن المدينة. بالنسبة إليهم لا كردستان من غير كركوك. أما التركمان وهم الذين لا يملكون موطئاً في العالم خارج كركوك فقد تُركوا في العراء.
كركوك في قلب الصراع الكردي - الكردي
وبغض النظر عن موقف الأحزاب الشيعية، فقد انحصر الصراع على حكم كركوك بين الحزبين الكرديين الأساسيين، حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديموقراطي الكردستاني. أما العرب وقد مثلتهم الأحزاب السنية فلا يزالون ضحايا حملة تعريب المدينة التي بدأت في سبعينات القرن الماضي. كان تكريد المدينة رد فعل متوقعاً بعد سقوط نظام "البعث" في 2003. حتى هذه اللحظة لم يُكشف عن التعهدات الشفوية التي قدمتها الأحزاب الشيعية للأكراد في مرحلة التمهيد للاحتلال وهي تعهدات جرى تسويغها برعاية أميركية مباشرة من أجل خلق انسجام بين مصالح الطرفين على حساب الحقائق التاريخية. من المؤكد أن المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، وقد ضمت كركوك، هي الدليل القاطع إلى وجود تلك التعهدات. غير أن ذلك كله صار من الماضي، وهو أمر تقبله السياسة التي لا أخلاق لها. حين فشل استفتاء الانفصال الكردي عام 2017 انسحبت الميليشيا الكردية "بيشمركة" من كركوك بضغط عسكري عراقي وبرضا أميركي. وكما يبدو فإن إلحاق المدينة النفطية بكردستان عن طريق القوة لم يكن مريحاً لطرفي التسوية السياسية العراقية، الولايات المتحدة وإيران. فإيران التي دخلت طرفاً قوياً في المسألة العراقية عن طريق الأحزاب الموالية لها ترى خطراً على أمنها في استقواء أكراد العراق بكركوك. وهي أصلاً لا تميل إلى إقامة وطن قومي لهم. غير أن هناك طرفاً ثالثاً كان مستعداً للقتال دفاعاً عن استقلالية كركوك. ذلك الطرف هو تركيا.
بكركوك يبقى العراق موحداً
قبل التعريب والتكريد كانت كركوك مدينة تركمانية. ذلك ما تعارف عليه العراقيون. ولكن التركمان وهم شعب مسالم أحبوا تركيا التي يعرفون أنها لا تحبهم غير أنهم لم يفرطوا بعراقيتهم. كانت الدولة المركزية قد حفظت لهم حقوقهم القومية ولم يكونوا أقوياء بالمعنى المسلح حين انفرط عقد تلك الدولة ليفرضوا شروطهم على الآخرين. حين التفتت تركيا إلى مسألة كركوك أخيراً كان الوقت قد تأخر. حتى العرب لعبوا دوراً منافقاً في الانتخابات البلدية الأخيرة. ارتضوا بمرشح حزب الاتحاد الوطني المقرب من إيران لكي يكون لهم منصب رئاسة مجلس المحافظة. ستنحصر المسألة إذاً بهزيمة الحزب الديموقراطي الكردستاني كما لو أن الصراع على كركوك هو كردي ــ كردي. ذلك ليس صحيحاً. كركوك هي عراق مصغر. وهي قلب المسألة العراقية. لذلك تخلت الأحزاب الشيعية الحاكمة عن تعهداتها بعدما أدركت أن مَن يملك الحكم في كركوك يملك الحكم في العراق. بطريقة أو بأخرى فإن العراق الموحد مرتبط بمسألة بقاء كركوك جزءاً منه.