النهار

هل يُصلح ستارمر ما أفسده جونسون؟
عمّار الجندي
المصدر: النهار العربي
كانت الجهود الرامية إلى تصويب العلاقات مع بروكسيل قد انطلقت بخجل منذ عودة حزب العمال الى السلطة في انتخابات ٤ تموز (يوليو) الماضي. وأثار هذا حفيظة البريكستيين فراحوا يتبرمون من خطوات جديدة اتُخذت لتفكيك العُقد التي خلفها البريكست.
هل يُصلح ستارمر ما أفسده جونسون؟
ستارمر وجونسون
A+   A-
 
بعدما راوحت علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي لسنوات بين القطيعة والبرود، ها هي تضع يدها في يده بتمهل يلقى تأييد الأغلبية بحسب استطلاعين للرأي نُشرا أواخر الأسبوع الماضي. بيد أن البطء موضع شك وانتقاد من جانب اقتصاديين ومحللين يؤيدون بدء العد التنازلي للعودة إلى الاتحاد الذي أخرجتها منه "كارثة" البريكست. وإذ يجري التداول بين الطرفين وراء الكواليس، يرفع البريكستيون أصواتهم بالتنديد والاحتجاج. 
 
أخذت بعض الخطوات الأولى في السياسة الخارجية سلفاً ترسم معالم مرحلة مختلفة. وكان وزير خارجية بريطانيا ديفيد لامي قد شدد فور مباشرته مهماته الجديدة على أهمية الانفتاح على الجيران، وتوجه في أول رحلة عمل له في أعقاب توزيره إلى برلين.
 وفي غضون أسابيع، وقّع مع نظيره الفرنسي ستيفان سيجورنيه مقالاً مشتركاً في نهاية الأسبوع الماضي، في محاولة لمناشدة أطراف النزاع في الشرق الأوسط كلها لمنعه من التدحرج الى حرب شاملة. وجاء ذلك بُعيد رحلة لهما إلى بيروت وتل أبيب والأراضي الفلسطينية المحتلة. وتُوجت هذه الجهود ببيان مشترك مع سيجورنيه ونظيريهما الألمانية أنالينا بيربوك والإيطالي أنطونيو تاجاني أصدروه منذ أيام بشأن التوتر السائد في الشرق الأوسط. وهل ثمة إشارة الى ذوبان الجليد بين لندن وبروكسل أوضح من تنسيق رئيس الدبلوماسية البريطانية بشكل منتظم مع نظرائه في أكبر دول الاتحاد؟
 
وقبل رحلات لامي المكوكية، كانت هناك لحظة تشريعية مهمة لجهة إعادة توجيه البوصلة البريطانية في وجهة أوروبا. فقد اشتمل خطاب الملك في البرنامج التشريعي للحكومة الجديدة "مشروع قانون سلامة المنتجات والمقاييس" في المملكة المتحدة الذي يعتبر حجر أساس في إعادة بناء العلاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. واعتبر مركز بحوث "المملكة المتحدة في أوروبا المتغيرة" أنه "للمرة الأولى منذ البريكست" تقول حكومة بريطانية بصراحة إنها ستبقى حريصة على "استمرار المواءمة مع لوائح الاتحاد الأوروبي الجديدة" لتسهيل مهمة الشركات العاملة هنا وهناك.
 
والواقع أن صحيفة "ديلي اكسبريس" أصابت حينما اعتبرت التشريع "خيانة للبريكست". فهو الأول الذي يقرب النظم البريطانية من الأوروبية بدلاً من أن يباعد الفجوة بينهما، كما سعى المحافظون، ولاسيما البريكستيون، اعتباراً من 2020. وهو قد يسمح بإبرام الصفقة المنشودة بهدف تحقيق توافق بين قواعد السوق الأوروبية الموحدة بما يتعلق بالأطعمة والمنتجات الزراعية والنباتات والصحة الحيوانية وذلك لتخفيف العبء على التجار والشركات. 
 
وكانت الجهود الرامية إلى تصويب العلاقات مع بروكسيل قد انطلقت بخجل منذ عودة حزب العمال الى السلطة في انتخابات 4 تموز (يوليو) الماضي. وأثار هذا حفيظة البريكستيين فراحوا يتبرمون من خطوات جديدة اتُخذت لتفكيك العُقد التي خلفها البريكست. فتارة تزعق وزيرة الداخلية السابقة سويلا برامفرمان معترضة على إلغاء "لجنة التمحيص" البرلمانية التي كانت أيام المحافظين معنية بالتدقيق في التعاملات مع أوروبا، وفي أخرى يشكو نايجل فاراج بمرارة من تخلي الحكومة الجديدة عن ضوابط بريكستية متعلقة بالهجرة أو التجارة. 
 
كذلك فإن معظم الأوروبيين مترددون في دعوة بريطانيا إلى الالتحاق بالاتحاد من جديد. فهي كانت منذ عقود متعبة، كما أن انسحابها هز الدول الأعضاء ومؤسساتهم المشتركة، بقسوة لم ينسَ معظمهم ألمها ومرارتها. 
 
في المقابل، ثمة ضغوط من جهات شتى لتسريع وتيرة التحولات التي ينبغي أن تكون شاملة وجذرية بشكل أكبر، كما يرى أنصار العودة إلى الاتحاد الأوروبي. ويعتقد هؤلاء أن "الرتوش" التي تجريها الحكومة على اتفاقية البريكست لا تكفي. وحذر "المعهد الوطني للبحوث الاجتماعية والاقتصادية" في أوائل آب (أغسطس) من أن الاقتصاد المتعثر لا شفاء له ما لم تبرم لندن اتفاقاً جديداً مع بروكسيل للحد من الضرر الذي لا يزال يلحق بالتجارة والإنتاجية والنمو الاقتصادي في البلاد بسبب صفقة البريكست العرجاء التي وضعها  رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون وفترة اللايقين الطويلة التي سبقت توقيعها. 
 
في هذه الأثناء، يوحي استطلاعان للرأي أجرتهما شركتا "سافانتا" و"يوغوف" بأن غالبية الناخبين راضية عن النهج الحذر الذي يتبعه رئيس الوزراء كير ستارمر حيال أوروبا. وإذ يفيد الأول بتأييد 53 في المئة من البريطانيين للتقارب مع الاتحاد الأوروبي، فإن الثاني أكثر إشكالية. ومع أنه دل على نسبة تأييد لتجديد العلاقات تساوي النسبة السابقة، فهو اعتبر أن الفوز الذي حققه حزب العمال في الانتخابات الأخيرة "لا يعطيه تفويضاً" لإدخال بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي من جديد.
 
من جهته، يواصل وزير الدولة في وزارة مجلس الوزراء المكلف ملف العلاقات مع أوروبانك توماس-سيموند، مفاوضاته في بروكسيل بشأن اتفاقية البريكست. ويبقى تطور الروابط بين لندن وبروكسيل برسم المستقبل، بحسب خبراء مثل البروفسور جوناثان بورتس الذي يرى أن التوصل إلى "اتفاقات إيجابية مبكرة"، من شأنه أن "يولّد ديناميكية اقتصادية وسياسية" ستشكل ضغطاً على الجانبين للإسراع بتحقيق "تغيير حقيقي". ولا يمكن استبعاد تأثير تطورات على صعيد السياسة الدولية في خيارات لندن، وخصوصاً إذا شهد الصراع مع موسكو تصعيداً خطيراً أو عاد ترامب إلى البيت الأبيض وهو يزمجر!  
 
جزم ستارمر مراراً بأن بريطانيا لن تعود الى الاتحاد الأوروبي خلال حياته. والانطباع السائد هو أنه سيسعى إلى إقامة صداقة متينة مع بروكسيل وفق صيغة جديدة لا تشمل عضوية الاتحاد. وهناك من يرجح أن "إعادة ضبط العلاقات وإعادة اكتشاف مصلحتنا المشتركة وتجديد روابط الثقة والصداقة" التي تعهد بها لخمسين زعيم أوروبي قبل نحو شهر، قد تدفعه إلى التمهيد للانتساب إلى الاتحاد مجدداً. 
 
وإلى أن تتضح الصورة بعد لقائه القريب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، للتشاؤم مبرراته. ولتفاؤل من يراهنون على تحول في موقف ستارمر لمصلحة أنصار الاتحاد الأوروبي البريطانيين، أسبابه أيضاً. فالزعيم البريطاني براغماتي بامتياز.  
 

اقرأ في النهار Premium