تتركّز الروايات في الصحف الأميركية والغربية على أن القوى الغربية تخشى من تبعات الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتشدّدة التي ترفض إنهاء الحرب في غزة، وتحاول جرّ الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران.
وتضيف هذه التحاليل، أن رئيس حركة "حماس" يحيى السنوار يساهم في عرقلة المفاوضات، ويسعى إلى جرّ إيران إلى حرب مع أميركا تعزز مكانته في القطاع. وتُجمع التحاليل في أميركا والمنطقة على أن كلاً من طهران وواشنطن لا يريدان الدخول في حرب مباشرة. وعند السؤال عن أسباب حشد أميركا قواتها البحريّة والجويّة في المنطقة، يأتي الجواب دائماً: "لردع إيران ومساعدة إسرائيل إذا تطورت الأمور واستدعت الحاجة". لكن، ماذا لو في الأمر أكثر من ذلك، وما يتمّ التصريح به هو سحابة دخان؟
أكّدت مصادر أميركية مطّلعة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سمع رفضاً من الرئيس الأميركي جو بايدن ومرشحي الرئاسة دونالد ترامب وكامالا هاريس، للاستمرار في حرب غزة وتوسيعها لتشمل الجبهة الشمالية. وأضافت هذه المصادر، أن بايدن لم يمانع استهداف إسرائيل مواقع "حزب الله"، لكنه رفض بشدّة ضرب البنية التحتيّة في لبنان. وأشارت هذه المصادر إلى أن بايدن أبلغ نتنياهو بأن القادة الأوروبيين يرفضون استهداف المنشآت الحيويّة والبنية التحتيّة في لبنان، لما لذلك من آثار كبيرة على بلد مُفلس، ويأوي أكثر من مليوني نازح سوري. وأبلغ بايدن نتنياهو بأنه إذا أراد توجيه ضربة قويّة إلى "حزب الله"، وإضعاف قدراته، عليه أن يفعل ذلك من دون ضرب المنشآت المدنيّة الحيويّة كالمطار والمرفأ ومحطات توليد الطاقة والجسور وغيرها.
أما بالنسبة إلى الموقف داخل إسرائيل، تُشير هذه المصادر إلى أن قوى المعارضة الإسرائيلية ما زالت عاجزة عن إطاحة حكومة نتنياهو، فشعبية الأخير قد ازدادت بعد اغتيال إسماعيل هنيّة وفؤاد شكر. وأكّدت هذه المصادر، أن نتنياهو لم يُبلغ واشنطن باستهداف هنيّة في طهران، الأمر الذي أغضب بايدن ومسؤولي الإدارة الأميركية بشدة، لإدراكهم أن هذا استفزاز كبير لإيران سيؤدي إلى ردّ عسكري مباشر منها. وتعمل واشنطن وعواصم أوروبية أخرى على إقناع طهران بتجنّب الردّ المباشر على إسرائيل. وبحسب المصادر نفسها، إقدام الحكومة الأميركية على وضع ثقلها لإعادة إطلاق مفاوضات وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب في غزة، هدفه مساعدة طهران في تبرير تأخير ردّها بانتظار انتهاء المفاوضات. وبحسب تقارير وتصريحات أميركية، تضغط واشنطن بشدّة على نتنياهو ليقبل بالاتفاق، كما طلبت أميركا من الوسطاء القطريين والمصريين الضغط على "حماس" للقبول بالمقترحات الجديدة. ويخشى الوسطاء من استمرار المشكل الذي منع الاتفاق حتى اليوم، وهو أنه عندما توافق إسرائيل على شرط ترفضه "حماس"، والعكس صحيح.
وتستغرب بعض المصادر الأوروبية كلام المسؤولين الأميركيين عن عجزهم عن وضع حدّ لسياسات نتنياهو وإسقاط حكومته. فأميركا هي أكبر ممول لإسرائيل وأكبر مورّد سلاح لها، ولها القدرة في الضغط على أعضاء الكنيست بأشكال متعددة، ومنها فرض العقوبات لإجبارهم على إطاحة نتنياهو. حتى إن بعض المصادر الأميركية تقرّ بأن واشنطن لم تلعب كافة أوراق الضغط على نتنياهو لأسباب قد تكون متعلقة بالانتخابات أو بغيرها. وتقول بعض المصادر إن الإدارة الأميركية تعتقد أن نتنياهو، حتى لو وافق على اتفاق لوقف النار في غزة، فهو قد يُقدم على تنفيذ المرحلة الأولى، ثم يستأنف العمليات العسكرية متحججاً بخروقات من "حماس"، أو قد يوقف الحرب في غزة ضمن شروط تلائمه، ويستفيد من إطلاق الرهائن، لكنه يستمر بالحرب على الجبهة الشمالية، وربما يصعّدها لتحقيق مكاسب ميدانية يُترجمها سياسياً.
وعند السؤال عن دعم القيادة العسكرية الإسرائيلية حرباً واسعة ضدّ "حزب الله"، تجيب المصادر الأميركية بأن هذه القيادات كافة تتفق على ضرورة توجيه ضربة كبيرة تقلّص قدرات "حزب الله" العسكرية وتدفع بمقاتليه بعيداً من الشريط الحدودي. لكن بعض الجنرالات الإسرائيليين يفضّلون تأجيل الأمر سنة أو سنتين للتحضير جيداً لهذه العملية التي يفضّلون تنفيذها في ظل حكومة جديدة لا تضمّ نتنياهو واليمين المتشدّد. إنما إصرار "حزب الله" على ربط وقف الأعمال القتالية بوقف حرب غزة يوفّر لنتنياهو الفرصة لتوسيع الحرب ونقلها بشكل واسع إلى الجبهة اللبنانية، وهذا ما تحضّر له القيادة العسكرية الإسرائيلية، وحشدت فرقاً لذلك. وتقول المصادر الأميركية، إن إسرائيل سحبت معظم ألويتها من محيط غزة وتحتفظ هناك الآن بأقل من فرقتين لتنفيذ مهمّات البحث والتدمير كلما تمّ رصد أي تحركات لمقاتلي "حماس" في القطاع. وبالتالي، التركيز على الجبهة الشماليّة بات أسهل حالياً.
وبالعودة إلى موضوع تعنت نتنياهو والسنوار، لا بدّ من التوقف عند هذا الأمر وطرح سؤال مهم: هل يُعقل أن يجرّ شخصان كافة اللاعبين إلى حرب واسعة في المنطقة ولا يستطيع أحد أن يوقفهما؟ هذه احتمالية ممكنة، ويمكن الجدال في مدى قوتها. فهناك أمثلة عبر التاريخ لقادة جرّوا دولهم إلى حروب مدمّرة لغايات عقائديّة أو طموحات وأوهام شخصية. وهناك إمكانية أن يكون هذا الحشد العسكري والتجهيزات داخل إسرائيل لحرب هو تحضير لتوجيه ضربة قويّة لوكلاء إيران في المنطقة، خاصة "حزب الله".
وبحسب مصادر أوروبية وأميركية، هناك إجماع داخل واشنطن ودول حلف شمال الأطلسي على أن إيران ووكلاءها باتوا الخطر الأكبر لهم في الشرق الأوسط. فإن ما حدث منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) كشف حجم وقوة ومدى انتشار وكلاء إيران، والخطر الذي يمثلونه اليوم على الملاحة المدنية في الخليج العربي والبحر الأحمر وشرق المتوسط. وهناك مراجعة استراتيجية شاملة لهذه الجماعات وخطرها، من أجل وضع خطط جديدة للتعامل معها ومع إيران على مستويات عدة ومنها العسكرية. وساهم التعاون الإيراني العسكري مع روسيا في حرب أوكرانيا في قلب المواقف داخل أوروبا ضدّ طهران.
قد يشكّل وجود شخصين منبوذين دولياً مثل نتنياهو والسنوار، ومتهمين بارتكاب جرائم حرب من محكمتي العدل والجنايات الدوليتين، فرصة لأي جهة أو قوى دولية اليوم تريد توسيع الحرب ضدّ وكلاء إيران، من دون أن تتحمّل هي المسؤولية. فكلاهما يسهل التضحيّة بهما ولومهما على ما جرى وما قد يحدث في المواجهات العسكرية المقبلة. فمن غير المتوقع أن يتهيأ مناخ داعم للحرب في إسرائيل ضدّ "حزب الله" وربما إيران - في حال ردّت بشكل مباشر على إسرائيل - كما هو الحال اليوم. فهناك استعدادات تامة من الدفاع المدني، وتمّ استدعاء ما هو مطلوب من الاحتياط، وأُخليت المستوطنات الشمالية فترة مُدّدت حتى آخر السنة، وتمّ حشد القوات الأميركية، وزوّدت إسرائيل بما تحتاج إليه من أسلحة.
كما تمّ إخراج أعداد كبيرة من الرعايا الأجانب من لبنان نتيجة دعوات سفاراتهم، ووُضِعت خطط لعمليات إجلاء من تبقّى في وقت الحرب. فإن كان هناك فعلاً عدم ممانعة من قبل الغرب بتوجيه ضربة قوية إلى محور الممانعة، فإن الفترة الحالية وحتى تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل هي الوقت الأمثل. وهي ستحدث في فترة رئيس أميركي تنتهي ولايته مع نهاية العام، وبالتالي لن يُحاسب أو يدفع ثمناً سياسياً لذلك، خصوصاً أن تصريحاته تدلّ على أنه ضدّ هذه الحرب، ويتهم نتنياهو بالسعي إليها. لكن أميركا ملزمة بمساعدة إسرائيل عسكرياً في حال تعرّضت لأي هجوم، وهذا موقف مُعلن لواشنطن. ليس بالضرورة أن يكون هناك تواطؤ أميركي أو غربي مع نتنياهو، فكل ما عليهم فعله هو عدم الضغط بجديّة لردعه. هذه ليست من نظريات المؤامرة، إنما نظريّة ممكنة فحسب، وفقاً لمجريات الأمور على الأرض حالياً.