القوات الأوكرانية تواصل التقدّم في منطقة كورسك الروسية ولو ببطء، فيما القوات الروسية تواصل التقدّم نحو مدينة بوكروفسك الاستراتيجية في منطقة دونيتسك بزخم أكبر، في سباق واضح بين روسيا وأوكرانيا لإحراز مواقع متقدمة قبل بدء المفاوضات التي لم تعد حديثاً محرّماً.
السباق الجاري في كورسك وبوكروفسك يتعيّن أن يحرز نتائج قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. ومع هذا الضغط العسكري، يجري الحديث أكثر عن إمكانات التفاوض والحوار. مستشارون مقرّبون من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لا يستبعدون إجراء مفاوضات بوساطة طرف ثالث، على غرار المفاوضات التي أدّت إلى اتفاق الحبوب في صيف عام 2023 بوساطة تركية وأممية.
غير بعيد من دوي المدافع، تتسرّب أكثر من رواية حول هذه المسألة، كأن تدور المفاوضات حول مسائل محدّدة مثل وقف قصف البنى التحتية في البلدين وتبادل الأسرى، من دون الخوض في غمار مفاوضات مباشرة شاملة بين موسكو وكييف لوقف الحرب.
هذه المفاوضات نفسها تحتاج إلى طرف ثالث محايد يثق به الطرفان. وتبرز تركيا والهند والمجر والبرازيل والصين والأمم المتحدة أطرافاً يمكن أن تضطلع بدور بنّاء على هذا الصعيد.
والتوغّل الأوكراني في كورسك الروسية بدا كأنه مقامرة من زيلينسكي كي يكسب أوراقاً تفاوضية في المقام الأول، ولإبطاء الزحف الروسي على بوكروفسك التي إذا سقطت تصبح مدن أوكرانية أخرى في هذه المنطقة تحت مرمى المدفعية الروسية.
والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يقع في فخّ سحب القوات من دونيتسك للدفاع عن كورسك، بل ذهب الأربعاء إلى جمهورية الشيشان الروسية كي يعهد إلى متطوعين شيشانيين بهذه المهمّة. وهذه أول زيارة لبوتين إلى هذه الجمهورية منذ أكثر من عشرة أعوام.
ولأن أوكرانيا تتصرّف كأن لم يعد لديها شيء لتخسره، فإنها توحي بأن قواتها دخلت كورسك لتبقى هناك أطول مدة ممكنة، فنسفت ثلاثة جسور بأسلحة غربية كي تقطع طرق الإمداد عن الوحدات الروسية الباقية في هذه المنطقة. كما طورت هجماتها بالمسيّرات لتبلغ موسكو بأعداد غير مسبوقة، وتُربك حركة الطيران، عدا عن الخسائر التي ألحقها سلاح المسيّرات بمصافي النفط والقواعد الجوية الروسية إلى عمق 1800 كيلومتر أحياناً، بينما تتعرّض شبه جزيرة القرم لهجمات بالمسيّرات والصواريخ يومياً.
إن الاندفاع الأوكراني الرامي إلى إحداث التوازن مع قوات روسية متفوقة عدداً وعدة في منطقة دونيتسك، لا يمكن أن يُفسّر بغير أن أوكرانيا تريد تحقيق أقصى ما يمكن من مكتسبات في الميدان، قبل الوصول إلى طاولة التفاوض التي لم تعُد بعيدة.
وروسيا أيضاً تعتبر أن سيطرتها على بوكروفسك تتيح لها التقدّم نحو معقلي تشاسيف يار وكوستيانتينيفكا الأوكرانيين، وتالياً يضمن لها موقعاً أقوى على طاولة المفاوضات.
ويعاني البلدان نقصاً في المجنّدين. وبينما تعتمد أوكرانيا على الغرب في إمدادها بالمساعدات العسكرية من صاروخ "جافلين" المضاد للدروع إلى مقاتلات "إف-16"، فإن روسيا هي الأخرى بحاجة إلى القذائف والصواريخ الكورية الشمالية، وإلى المسيّرات الإيرانية.
وماذا بعد...
وصل الجانبان إلى اقتناع بأن الحرب تحوّلت إلى حرب استنزاف مع عدم قدرة أي من الطرفين على إحراز نصر حاسم، يفرض تسوية مذلّة على الطرف الآخر. إذاً، لا بدّ من الذهاب إلى الطرق الديبلوماسية لتسوية أخطر النزاعات التي تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
مجرد اختيار كورسك برمزيتها العائدة إلى الحرب العالمية الثانية، لم يكن اختياراً أوكرانياً عبثياً. أرادت كييف ومن خلفها الغرب، توجيه رسالة حازمة إلى بوتين الذي كان يتحدث كثيراً عن كورسك، بوصفها نصراً سوفياتياً ساحقاً غيّر مجرى الحرب في مواجهة ألمانيا النازية.
التقط بوتين مغزى الهجوم الأوكراني منذ اليوم الأول، عندما قال إن كييف تريد تحسين موقعها في المفاوضات وتخفيف الضغط عن دونيتسك.