بدا الأمر أقرب إلى مادة إعلامية مضللة وصلت إلى الوكالات ووسائل الإعلام، مرسوم رئاسي بتشكيل لجنة تحضيرية و"البدء بإجراء الترتيبات اللازمة لزيارة الرئيس محمود عباس وأعضاء القيادة الفلسطينية غزة"، وهي الزيارة التي أعلن عنها في خطابه أمام البرلمان التركي الأسبوع الماضي، الوكالة الصينية "شينخوا" كانت الجهة الأولى التي وصلها المرسوم وتحولت إلى مصدر نقلت عنه بقية الوكالات ووسائل الإعلام.
وهو الانطباع المتشكك نفسه الذي واكب الإعلان عن نية الرئيس الذهاب إلى غزة، وما تلاه من صدمة مع تناقل خبر طلب السلطة تنسيقاً أمنياً مع سلطات الاحتلال للزيارة في حينه، بكل ما يحيط بمثل هذا التنسيق من غرابة تتناقض مع نبرة التحدي التي حاول خطاب أنقرة أن يمررها للشعب الفلسطيني والإقليم وترويكا الوسطاء؛ قطر ومصر والولايات المتحدة، والمجتمع الدولي.
طلب التنسيق الأمني من الاحتلال الذي ينفذ عملية إبادة ممنهجة في غزة والضفة، والذي سحب البساط تماماً من تحت أقدام السلطة، وحشرها في المنطقة "ألف" من دون صلاحيات، فرّغ الفكرة برمّتها من جوهرها وجوّفها تماماً من مقاصدها، وبدا مثل قرصنة سيبرانية لحساب السلطة، ولكن تصريحات المسؤولين في القيادة الفلسطينية التي تبعت رفض إسرائيل الطلب، حولت الخبر إلى معلومة حقيقية مؤلمة، حتى ادعاء الذكاء، أو التذاكي، في بعض تصريحات هؤلاء المسؤولين من نوع "أننا كنا نعرف أن سلطات الاحتلال سترفض ذلك". بدا مثيراً للقلق ومحزناً في الوقت نفسه ويصب في الانطباع السائد منذ سنوات في الشارع الفلسطيني بأن السلطة الفلسطينية تعيش بطريقة كلية، وميؤوس منها، خارج كل ما يحدث في العالم الواقعي وفي فلسطين وحولها تحديداً.
يسهب نص المرسوم الذي تجاوز التكليف الرئاسي بتشكيل اللجنة، إلى شرح أهداف الزيارة، بحيث بدت أقرب إلى برنامج وطني شامل، وكدست التاريخ الوطني ضمن حمولات الزيارة المرتقبة، حيث جرى زج كل شيء ممكن في المتن، من وقف الإبادة الجماعية في غزة إلى إنهاء الانقسام ودور منظمة التحرير وتحقيق الوحدة الوطنية وإقامة الدولة المستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس، كما يتضمن البرنامج/المرسوم إشارة إلى فتح حوار وطني.. عملياً معظم المطالب التي تتقاذفها الفصائل والسلطة و"حماس" مثل بطاطا ساخنة منذ صبيحة الانقلاب في غزة صيف 2007، وهو ما يمكن اعتباره، من دون جهد، مع احتساب مصادفة أن الوكالة الصينية هي المصدر الإعلامي، امتداداً لبيان الفصائل الأربعة عشر الصادر عن لقاء العاصمة الصينية بكين الشهر الماضي، أو ملحقاً متأخراً لذلك البيان الذي تبخر بمجرد صعود المشاركين إلى رحلاتهم وعودتهم نحو مكاتبهم.
المرسوم بالشكل الذي وزعته الوكالة الصينية دفن ذلك البيان تماماً تحت فائض اللغة الذي تدفق منه، وفرض نفسه، المرسوم، كبديل جاهز من كل الجهود والاجتماعات، غير المجدية والتي تواصل تأكيد فكرة عدم جدواها في كل جولة، من لقاء الأمناء العامين الأول في بيروت، وصولاً إلى لقاء بكين ومروراً بجولات المصالحة والوحدة التي تجولت في العديد من العواصم، بما فيها مكة وموسكو وإسطنبول والقاهرة والجزائر والدوحة...
ليس الأمر اعتراضاً على عودة الرئيس إلى غزة، يمكنه أن يحاول، وهي مهمة من دون شك، بما في ذلك الوقوف على الجانب المصري من معبر رفح، حيث يستطيع أن يرى الدمار ويشم رائحة محرقة شعبه، ولكن الاعتراض هنا على الأحمال الزائدة التي ألقيت على كاهل الفكرة، والتي بددت طاقتها واستنفدتها وفرّغتها تفريغاً محزناً من مضمونها، وعلى خفة تناول الشأن الوطني بمكوناته كافة والذي يصل إلى حد العبث، وعلى مصادرة حضور الأطراف الأخرى، وتحييد الإبادة كواقع ينتقل بقوة من غزة إلى الضفة الغربية، الاعتراض قبل ذلك على الاستغلال الغريب للزيارة والانتهازية السياسية المتخفية وراء تلك الأحمال.
كان عليها، فكرة العودة إلى غزة، حتى تمتلك قوة حقيقية وبعداً وطنياً واقعياً يمنحها قدمين ويدين، أن تُبنى على قاعدة تنفيذ مقررات اللقاءات والاجتماعات والاتفاقات التي ألقيت في القبو، ولو من طرف واحد، عبر تشكيل، من دون إبطاء أو تعلل، جبهة وطنية تترفع أمام المجزرة عن حساباتها الضيقة، لا أن تتحول إلى بديل لكل ذلك.
أو أن تبقى شعاراً لزيارة منشودة فقط.