أحيا الشيعة في العالم الإسلامي أمس الأحد 25 آب (أغسطس) 2024م – 20 صفر 1446هـ، ذكرى أربعينية استشهاد الإمام الحسين في معركة الطف، وهي مراسم العزاء الكبرى التي تقام بعد المراسم العاشورائية في العاشر من محرم من كل عام، إذ يقوم محبو الحسين في العالم الإسلامي على اختلاف مذاهبهم بزيارة مرقده في كربلاء أو إقامة المواكب وسرادق العزاء داخل مناطقهم الشيعية.
وبالنسبة إلى إيران بوصفها دولة شيعية، فقد ركزت هذا العام على تضخيم هذا الحدث الكبير، سواء في العراق أم على أراضيها، لأسباب مبكرة تتعلق بالأزمات التي تمر بها وسط إقليمها، منذ العدوان الإسرائيلي على غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
وتشير بيانات إيران الرسمية إلى دخول ما يقرب من 3.5 ملايين زائر إيراني وأجنبي إلى العراق عبر أراضيها، وهو عكس توقعاتها التي بلغت 4.5 ملايين زائر. لكن مع ذلك ركزت وسائل إعلامها باللغات المختلفة على إبراز حجم مشاركتها في زيارة العتبات المقدسة في العراق، أو توفير الدعم والتنظيم، تحت رعاية الحرس الثوري الإيراني وقوة التعبئة (باسيج) للمسيّرات والمواكب التي تجوب المدن الإيرانية.
حتى أن إيران التي تقطع الإنترنت عن سكانها وفرت الإنترنت مجاناً لزوار الأربعين، كي يتمكنوا من التواصل مع أسرهم ونقل ضخامة الحدث إلى وسائل التواصل الاجتماعي. فقد أرادت الجمهورية الإسلامية أن تخلط العسكري بالديني، وهو ما يحتاج إلى خلفيات معرفية لفهم سلوك الدولة الإيرانية بعد ثورة 1979.
خلفية تاريخية
لفهم أهمية المراسم الشيعية الضخمة بالنسبة إلى إيران، ينبغي أن ندرك أولاً حقيقة تاريخية تتعلق باستراتيجية الحروب الفارسية، وهي أنها تعتمد على الحشد والاستنفار واستعراض الأعداد الغفيرة والتفاخر القومي.
النقطة الأخرى تتعلق بأهمية المراسم الحسينية بالنسبة إلى القومية الإيرانية، ليس من باب مسألة الصراع المذهبي كما يُصور البعض، بل من باب استعادة إيران مكانتها الحضارية والقومية التي فقدتها منذ الفتح العربي، والتي تكاملت عبر التاريخ بدايةً من تأسيس إمارة آل طاهر (205-259 هـ)، وصولاً إلى الإمبراطورية الصفوية (1501-1736م). ولذلك نجد الشاه الصفوي عباس الأول (1587–1629م) يقوم بزيارة مرقد الإمام علي في النجف الأشرف ماشياً على قدميه من دار السلطنة في أصفهان، وهدفه من ذلك هو بسط السيطرة على المراقد الشيعية في مواجهة القومية العثمانية آنذاك.
الأمر الآخر أيضاً، أن الدولة الفارسية طوال تاريخها بعد الإسلام استفادت من التشيع في بناء قوميتها واستعادة مكانتها، مثلما استفادت أيضاً الدول العربية والعثمانية من التسنن في بناء قوميتها وإمبراطوريتها.
ولذلك فإن روح الحماسة الكامنة في الطقوس الشيعية استُغلت في تعبئة الجماهير ضد أعداء الدولة الفارسية، باسم أعداء الحسين وأعداء الإسلام، وأصبح الشيعي يركز على مآتم العزاء والبكاء والنواح واللعن، بدلاً من التركيز على فلسفة البحث عن العدالة والثورة من أجل تحقيقها، بل كل ما يشغله أن يقوم بلعن مَن تحدده له السلطة! حتى أن كربلاء لم تعد حادثة تاريخية تجسد معركة بين الظلم والعدل، بل حادثة تقوم السلطة بتكرارها لتثبيت قوتها وأهدافها القومية (!) وسط صراع على مَن يتحكم في تلك المراقد المقدسة.
عودة للوقت الراهن
يمكن أن نقول إن أربعينية الحسين هذا العام هي في إطار الاستعراض الإيراني بالقدرة على التعبئة والحشد، فإيران التي التزمت الحفاظ على مصالحتها مع السعودية، عملت خلال مراسم الحج على التزام قواعد البلد المستضيف، لكنها كانت في حاجة إلى الحشد الثوري لقضية فلسطين وغزة حتى تؤكد شعارها "نصرة المستضعفين" وتثبت انخراطها وحضورها داخل العالم الإسلامي، وهو ما استبدلته بمراسم الأربعين.
وقبل عملية اغتيال إسماعيل هنية، في 31 تموز (يوليو) الماضي، خرج المستشار العسكري للمرشد الأعلى، يحيى رحيم صفوي، بتصريح في 19 تموز لا يمكن تجاهله، قال فيه: "خلال ذكرى الأربعين المقبلة، سيسير 20 مليون شخص من النجف إلى كربلاء، ماذا إذا غيّروا وجهتهم نحو القدس، هل تستطيع إسرائيل مقاومتهم؟". وهو هنا لا يشير إلى معركة نظامية، بل إلى معركة تعبئة باسم القدس، يمكن أن تقلب المنطقة رأساً على عقب! ومثل هذه التصريحات تتكرر على ألسنة المسؤولين الإيرانيين، لأن الإمام الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية، روّج بشدة خلال الحرب العراقية - الإيرانية لشعار "طريق القدس يمضي من كربلاء".
وفي ظل الوعيد الإيراني بالانتقام من إسرائيل، ركزت منابر خطباء الجمعة الماضية والصحف الإيرانية في إيران، على جعل أربعين الحسين جزءاً من الحرب النفسية على إسرائيل، فقالوا إن كربلاء الطريق إلى الأقصى، وإن الحسين رمز للحرية والثورة ضد الاستكبار العالمي!
والمحصلة، أن ربط مظلومية الحسين بمظلومية أهل فلسطين، يمهد لعولمة الخطاب الثوري لإيران، ويوسع من هوة الخلاف بين الخطابين العربي والإيراني تجاه القضية الفلسطينية، ما يعزز قدرة إيران على استقطاب التيارات الإسلامية باسم التصدي لقوى الاستكبار ونصرة القضية الفلسطينية.