في الوقت الذي يعيش القطاع الصحي في العراق حالة من الانهيار غير المسبوق، إذ صار الكثير من المرضى يذهبون للعلاج في تركيا والهند وإيران، يتظاهر خريجو الكليات الطبية مطالبين بتعيينهم. رد الفعل الحكومي كان أمنياً حيث أُطلق الرصاص الحي على المتظاهرين، ما أدى إلى سقوط عدد منهم جرحى. ذلك الإجراء المجنون والغبي لن يخفي أن نسب البطالة، بحسب وزارة التخطيط العراقية، تصل إلى 15%، كما أن نسبة الفقر تجاوزت الـ22% من مجموع السكان. ذلك يعني أن عشرة ملايين عراقي يقبعون اليوم تحت خط الفقر. وكما أرى فإنّ شيئاً لن يتغير في المستقبل القريب. ذلك لأن القوى السياسية التي تحكم منذ أكثر من عشرين سنة تخطط أو يُخطط لها أن تبقى ممسكة بالسلطة إلى أجل غير معروف وهي لا تملك برامج تنمية كفيلة بالتصدي لمشكلات البطالة والفقر وما ينتج منها في المدن التي صارت تكتظ بالسكان في بيئة غير صحية.
على مستوى العاصمة بغداد مثلاً، صارت أحزمة الفقر المحيطة بها تشهد تصاعداً لمختلف أنواع الجريمة التي لم يعرفها العراقيون من قبل، ومنها ما هو متصل بتجارة المخدرات. وإذا ما عرفنا أن المدينة التي خططت لإيواء ثلاثة ملايين صارت تؤوي أكثر من عشرة ملايين، سقط الجزء الأكبر من شبابها في دوامة البطالة والفقر يمكننا أن نتخيل حجم المعاناة التي تتفجر مواهبها من خلال الجريمة.
سوق عمل مفتوحة للوافدين
قبل أن ينزلق العراق إلى هاوية حروبه في ثمانينات القرن الماضي، لم تكن هناك مشكلة عنوانها "البطالة". لقد نجح النظام السياسي في السنوات الأولى من قيامه، وبالتحديد بعد تأميم النفط عام 1972، في وضع مخطط لاستيعاب كل القوى العاملة في سوق عمل كانت ملحقة بخطة تنمية نتجت منها إقامة الكثير من المصانع الكبيرة وتطوير خدمات الري لاستصلاح الأراضي الزراعية كما شهد البلد نهضة معمارية غير مسبوقة، ناهيك بالتحولات الكبيرة التي شهدها قطاعا التعليم والصحة. تزامن ذلك مع تطوير لافت للبنية التحتية التي بدت في أقوى حالاتها. كان قرار إلزامية العمل ملحقاً بقرار إلزامية التعليم ومجانيته. لذلك لم يكن مفاجئاً أن يجد خريج الجامعة قرار تعيينه جاهزاً بعد أشهر قليلة من تخرجه. في بعض الحالات كان ذلك الأمر ضاغطاً بل مزعجاً ولكن إعفاء الشباب من الخدمة العسكرية لثلاث سنوات كان ينطوي على قدر من الإغراء. بدا الأمر كما لو أنه عقاب لمَن لا يرغب في العمل بسبب أوضاعه المادية الميسرة. ولكنه بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الشباب كان فرصة للدخول إلى الحياة بنزاهة ومن غير مشقة. غير أن الوضع تغير حين بدا أن الحرب ضد إيران سيطول أمدها. لقد تم استدعاء الشباب العراقي إلى الجبهات وفرغت المعامل والمزارع. ذلك هو السبب الذي دعا العراق إلى فتح حدوده أمام العمالة المصرية فامتلأ العراق بملايين المصريين (قيل إن عددهم وصل إلى سبعة ملايين). في حقيقة الأمر لم يكن المصريون الوافدون للعمل كلهم قوى عاملة حقيقية، غير أن أحداً في العراق لم يعبر عن ضيقه.
سقوط قيم العمل في خضم الفوضى
لم تشهد سوق العمل في العراق انهياراً حقيقياً إلا بعد غزو الكويت عام 1990. لم يحدث ذلك بسبب الحصار الدولي غير المسبوق تاريخياً الذي فُرض على البلاد فحسب، بل أيضاً لأن اختلالاً في القيم الأخلاقية حدث بسبب الغزو وما رافقه من عمليات سطو ونهب وسلب. ذلك الاختلال كان السبب الرئيس في تدمير الثقة بالعمل، وهو ما أدى إلى بروز طبقة ثرية غير عاملة لا تنظر إلى العمل باحترام. في تسعينات القرن الماضي انقلب العراق على نفسه. صحيح أن خريجي الجامعات كانوا يعينون في وظائف تنسجم مع تخصصهم، غير أن ما كانوا يحصلون عليه من رواتب شهرية لا يكفي لإعالتهم ليومين في ظل انهيار سعر صرف الدينار العراقي. فقدت الوظيفة يومئذ هيبتها، فكنت ترى على سبيل المثال مدير مدرسة يعمل سائق تكسي بعد الدوام الرسمي وقد يقل طلاب مدرسته إلى بيوتهم. أما الأعمال الحرة فقد كانت بمثابة عنوان لحشود من البشر، لا تعمل غير أنها تعيش في وضع ميسور. لقد تمكنت السوق السوداء من ابتلاع مساحة العمل كلها، أما الدولة فقد كانت مهمومة بتوفير مفردات البطاقة التموينية حتى لا يجوع الشعب العراقي. ما حدث بعد الاحتلال لم يتوقعه أحد. كل الذين استفادوا من انهيار الاقتصاد العراقي وتستروا بشعار الأعمال الحرة صاروا جزءاً قيادياً في النظام السياسي الجديد بغض النظر عن التسمية التي استطاعوا من خلالها التسلل إلى الطبقة السياسية الحاكمة وهم اليوم يصنعون سوق عمل هي من إلهام تجربتهم.
من الجامعة إلى فئة المحرومين
كل الدول في حاجة دائمة إلى أطباء. كبيرها وصغيرها. من بريطانيا إلى قطر. كل الدول تستورد أطباء إلا العراق فهو يطرد أطباءه إلى الشارع. يُقال إن هناك أكثر من عشرين ألف طبيب عراقي يعملون في أوروبا. لم أدخل مستشفى في السويد أو بريطانيا إلا والتقيت أكثر من طبيب عراقي. صحيح أن الظروف الأمنية السيئة دفعت الكثيرين إلى الهروب من العراق بعدما قتلت الميليشيات عدداً من الأطباء، غير أن الصحيح أيضاً أن انهيار القطاع الصحي لم يكن ليسمح للأطباء بالعمل. ولمَن لا يعرف فإن راتب الطبيب الشهري في العراق لا يتجاوز الـ600 دولار، وهو ما لا يسمح له بالعيش الكريم في بلد ضربته جائحة الغلاء. والأطباء هم الفئة الأقل عدداً من العاطلين من العمل في العراق.
عاد العراقيون إلى مرحلة صار العمل فيها عزيزاً فيما تؤكد إحصاءات وزارة التخطيط أن هناك 1.5 مليون عامل أجنبي يعملون في العراق. من بينهم 71 ألفاً يحملون تصاريح عمل، أما البقية فإنهم يعملون بطريقة غير شرعية. في مؤشر البؤس العالمي يحتل العراق مرتبة متقدمة وليس من المتوقع أن يكون سعيداً ذلك البلد الثري الذي ينضم شبابه بعد تخرجهم في الجامعات إلى فئة المحرومين.