مع رواج التحذيرات من تحول جرائم قتل النساء في بريطانيا إلى "وباء"، أخذت أجراس الإنذار التي رددت الدوائر البرلمانية صداها في الماضي، تُقرع من جديد. وسارع قادة الشرطة الذين لمسوا تزايد الاعتداءات ضد المرأة بنسبة 37 في المئة خلال السنوات الخمس الأخيرة، إلى المطالبة بإعلان "حالة طوارئ على المستوى الوطني" للتعامل مع هذا الوضع. لكن هل يجدر بأحد أن يستغرب تفشي هذا "الوباء" في مناخ تتعرض فيه نحو مليوني امرأة، أي واحدة من كل 12 امرأة في إنكلترا وويلز، للعنف الجسدي والجنسي والنفسي، في المنزل وخارجه؟
بعض هذه الجرائم يعود إلى أسباب تتعلق بخصوصيات المجتمعات المحلية. ما عدا ذلك، تُقتل البريطانيات كغيرهن من نساء العالم: تارة لأن الصدفة ألقت بهن أمام مهووس، أو مريض، أو مجرم، في مكان شبه مهجور. وقد تأتي الصدفة القاتلة في حيز مزدحم كمحطات السكك الحديد والقطارات التي تقول شرطة النقل إن الاعتداءات على النساء ازدادت فيها بنسبة 50 في المئة في السنتين الأخيرتين وبلغت في العام الماضي 11357، بينها 2475 حادثة تحرش جنسي.
هناك جرائم ترتكبها غريبات أو قريبات للمغدورة. إلا أن أكثرها تكون بيد الزوج أو الطليق أو الحبيب. وتفيد بحوث أكاديمية بأن المسؤولية في 20 في المئة من جرائم القتل في بريطانيا تقع على عاتق الزوج أو الزوجة. وتذكر منظمات نسوية أن امرأة تُقتل على يدي شريك حالي أو سابق كل خمسة أيام، كمعدل وسطي.
لون البشرة قد يجعلهن أيضاً فريسة للعنصري والمنحرف، فنسبة المغدورات من صاحبات البشرة السوداء أو الملونة ارتفعت من 43 في المئة في 2022 إلى 62 في المئة في العام التالي. وتلعب تجارة الجسد دوراً في سقوط المزيد من الضحايا بين النساء، في جرائم اشتُهرت إما لفظاعتها أو لأن قاتلين متسلسلين ارتكبوها بعدما سمعوا أصواتاً خفية تحضهم على التخلص من العاهرات، بحسب ما ادعوا.
والشرطة المنهكة ذات القدرات المحدودة، والتي تعاني "العنصرية المؤسسية"، لا تقوم دوماً بواجبها في حماية النساء. هذا ما يستخلص من النهاية المأسوية لكثيرات وصل إليهن القاتل مدججاً بسكينه قبل أن تأتي الشرطة لإنقاذهن بعد طول انتظار. مثلاً، رنيم عوده (22 عاماً) الشابة السورية التي هربت من الحرب إلى مدينة برمنغهام، لتلقى حتفها هناك على يد طليقها الأفغاني جانباز تارين الذي ذبحها في 2018 هي وأمها خولة سليم (49 عاماً) بعدما تقاعست الشرطة عن مساعدتهما رغم الشكاوى المتكررة وطلبات الاستغاثة العديدة التي أجرتها المغدورة حتى مصرعها.
وهم لا يكتفون بالتقاعس. ديفيد غاريك (48 عاماً)، الشرطي السابق في فرع الحماية البرلمانية والدبلوماسية النخبوي في شرطة العاصمة، اعترف في 2023 بارتكاب 85 "مخالفة خطيرة" على امتداد 17 عاماً شملت إرهاب النساء وتعذيبهن والاعتداء عليهن جنسياً مرات ومرات. ولهذا "المغتصب المتسلسل" زميل في الفرع نفسه، اسمه واين كوزينز (48 عاماً) خطف ساره إيفرارد (33 عاماً) لساعات ثم اغتصبها وتركها جثة هامدة. واللافت أن المحققين اكتشفوا لاحقاً أنه كان يعتدي على النساء منذ 1995!
وهل هناك سبب مباشر لضياع حياة كل هؤلاء سدى؟ كثيرات وكثيرون يوجهون أصابع الاتهام إلى حكومات حزب المحافظين، فخلال ولاياتها المتعاقبة منذ 14 سنة، قُتلت 1200 امرأة على أيدي رجال. بيد أن هذا ليس أكثر من نصف الحقيقة. أما نصفها الثاني فهو طبيعة المجتمع الذكوري المتشبع بعداء المرأة، و"أوبئة" إدمان المخدرات والبطالة وتعنيف المرأة، ورواج المنشورات الإباحية التي تقلل من قيمة النساء، وغيرها من المسببات الأساسية التي كانت حاضرة قبل وصول المحافظين إلى الحكم، وستبقى بعد رحيلهم عنه.
وعلى أي حال، يستحق المحافظون الكثير من اللوم لأنهم أنفقوا حصة الأسد من طاقاتهم في السنوات الأخيرة على الهجرة. في غضون ذلك كان "الوباء" يستفحل، يأتي على حياة المزيد من النساء من دون أن توليه الحكومة اهتماماً يقارن بما كانت تكرسه لإيقاف "الزوارق الصغيرة"! هكذا تفاقمت الأزمة ويعتقد أن امرأة تُقتل بيدي رجل كل ثلاثة أيام. وبعضهن لا تصل أسماؤهن إلى السجلات الرسمية لأن تهمة قتلهن لم توجه إلى أحد رسمياً بسبب الغموض الذي يكتنف ملابسات الحادث.
وفي أواخر شباط (فبراير)، وقفت النائبة العمالية جيس فيليبس، في البرلمان لتقرأ أسماء 109 بريطانيات بين سن الـ15 والـ92 قُتلت كل منهن على يد رجل في الـ12 شهراً السابقة. اضطرب صوتها وهي تروي قصص بعضهن، وكيف ظلمهن الرجل وتخلت عنهن الشرطة كما خذلهن القضاء الذي ترك بعض "الوحوش" طلقاء أو أصدر بحقهم أحكاماً مخففة إلى درجة صادمة.
وفيليبس تتابع هذا "الوباء" منذ سنوات عدة كانت خلالها وزيرة الدولة المكلفة ملف الحماية والعنف ضد النساء والفتيات، في حكومة الظل. أما وقد أصبحت منذ 5 تموز (يوليو) الماضي تحتل المنصب نفسه في حكومة كير ستارمر، فسنعرف قريباً ما إذا كانت هي والمسؤولون المعنيون الأرفع منها، أفضل من سابقيهم ممن زعمت في الماضي أنهم جهلوا، أو تجاهلوا، الأزمة وكأن حياة المرأة لا قيمة لها!
رئيستها وزيرة الداخلية إيفيت كوبر أعلنت أنها تحاول تمرير قانون يصنف "الميسوجينية" كضرب من الإرهاب. وإذا تم تبنيه، لكان هذا القانون خطوة أولى على طريق الدفاع المجدي عن حق المرأة بالحياة.
في المقابل، قد لا يغامر زعيم يهجس بالسلطة ببذل الكثير من أجل قضية معقدة وقد يطول الوقت قبل أن يحقق فيها نجاحات حقيقية، كما أنها لا تعتبر شعبية، حتى في أوساط نوابه الذين تخلف معظمهم عن حضور جلسات برلمانية حول "الوباء". فهل حياة المرأة في بريطانيا مهمة؟