اشتعلت خلال الساعات الماضية أحاديث البراءة والمصالحة التي أعلنتها عناصر محسوبة على جماعة الإخوان المسلمين من داخل السجون وخارجها ورسائلها، أملاً في منح التنظيم وقياداته وقواعده قبلة الحياة من قبل النظام السياسي، والتطلع إلى إيجاد دور لأبناء حسن البنا في الشارع المصري بعد سقوط حكم المرشد وتوابعه.
ثمة تكهنات حول مبادرة المصالحة الأخيرة التي أعلنت من خارج القاهرة، واختيار توقيت الإعلان عنها من قبل الإعلامي ماجد عبد بتوجيه مباشر من حلمي الجزار مسؤول المكتب السياسي لـ"جبهة لندن" التي يترأسها القائم بأعمال مرشد الإخوان صلاح عبد الحق، - رغم نفيه لاحقاً - لا سيما في ظل رسائل مسربة من داخل السجون لبعض شباب الجماعة، يطالبون فيها بالعفو عنها، ويتبرؤون من التنظيم وأدبياته وأهدافه، تحت مسمى "متلقى رشد في الداخل".
ترغب جماعة الإخوان في خلق واقع جديد باستثمار توافق الجانب المصري مع الجانب التركي والجانب القطري في المرحلة الأخيرة، من خلال طرح مبادرتها الأخيرة، والزعم باستجابة الأجهزة الأمنية وعقدها لقاءات عدة مع ممثلين من قيادات الجماعة، فضلاً عن استغلال الزيارة المرتقبة للرئيس عبد الفتاح السيسي لإسطنبول في أول أيلول (سبتمبر) المقبل، وكذلك انتخابات الرئاسة الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، بهدف الضغط على النظام السياسي المصري.
دائماً ما تقع مبادرات الإخوان التي تدعو إلى المصالحة في نطاق الانتهازية السياسية، فضلاً عن تبنيها تنفيذ مجموعة من الإجراءات التي لا تملك فيها قراراً من عدمه، سواء امتناعها عن ممارسة السياسة لـ10 أو 20 سنة مقبلة، أم الاعتراف بشرعية النظام السياسي، إذ إن الجماعة لم يعد لها تمثيل حقيقي في الشارع، مع تفكك تنظيمها وكيانها الحركي، وتخبط منهجها الفكري والأيديولوجي، واتساع دائرة الانشقاقات بداخلها، ومن ثم لا تبتغي الجماعة وممثلوها في الداخل أو الخارج سوى الإفراج عن سجنائها، رغم تورطهم في أعمال عنف مسلح، وخضوعهم لسيادة القانون الجنائي، وليس للنطاق السياسي، ما يعني رغبتها في منحها وضعاً استثنائياً لا يحق لها أو لغيرها وفقاً لعدالة القضاء المصري.
تدرك جماعة الإخوان أنها المستفيد الأوحد من فكرة "المصالحة" التي تنادي بها، في ظل رغبتها في الخلاص من "العشرية السوداء" التي حلت بها منذ حزيران (يونيو) 2013، وتطلعها نحو "العشرية المكية" التي تمنحها فرصة تأطير وضعها التنظيمي والحركي، انكفاءً وانغلاقاً على ما تبقى من دوائرها التنظيمية أولاً، ثم التغلغل ثانية بين الصفوف المجتمعية، في عباءات دعوية واجتماعية وسياسية جديدة، لا سيما أنها تيقنت من أن استدعاء المظلومية لم يعد يجدي في تحقيق أهدافها المرحلية، ولم يزدها سوى تشرذم وتفكك.
الرسائل الأخيرة المسربة من داخل السجون المصرية، والمعنونة بـ"البراءة"، حملت نوعاً من التضخيم من قبل المسؤولين عن تسريبها، في ظل تكرار مضامينها عشرات المرات، لكنها صيغت وخرجت في تلك المرحلة، بهدف الاستفادة من حالة الزخم التي طرحها برنامج "المراجعات" المذاع على قناة "العربية"، ويقدمه الإعلامي ضياء رشوان، رغم أن ما طرحه البرنامج لا يعد مراجعات بالمعنى المفهوم، ولكنه مجرد سياقات لتجارب ذاتية مختلفة الدوافع والقناعات، سواء الفكرية أم الحركية أم التنظيمية.
كما يبرز التضخيم غير المبرر للرسالة الأخيرة التي نشرتها إحدى وسائل الإعلام العربية تحت عتوان "براءة.. مراجعات رشد بالداخل"، في ما وصفتها بأنها بمثابة امتداد لما يعرف بـ"ملتقى رشد في الخارج"، والمعني ببلورة النشاط الفكري لعدد من المنشقين عن الجماعة، إذ لا يوجد ما يسمى بـ"ملتقى رشد" لا داخل السجون ولا خارجها، ولم يكن سوى فكرة طرحها المحامي والقيادي السابق في الإخوان، الأستاذ مختار نوح، ولم يكتب لها النجاح، ولم تترجم عملياً وواقعياً.
كل مبادرات الإخوان مجرد كلام في الهواء، ما لم تعلن الجماعة إعلاء قيمة الوطن والمواطنة، والتخلي عن العنف، والتباعد عن العمل السياسي، والتنازل عن مطامعها في الوصول إلى السلطة، وعليها الاعتراف بمسؤوليتها عن الدماء التي سالت على الأراضي المصرية منذ حزيران 2013، والاعتراف بمسؤوليتها عن النزعة التكفيرية التي انتابت العقل والمرجعية العربية، والاعتراف بأنها السبب الرئيسي في إنتاج العشرات من تنظيمات التطرف المسلحة، نتيجة الانحرافات الفكرية والعقائدية التي أسس لها وصاغها كل من سيد قطب وحسن البنا ومنظروها الآخرون.
تحكم البراغماتية مساعي جماعة الإخوان ومشروعها، ومن ثم عليها قبل أن تنادي بالمصالحة أن تعلن تبنيها "مراجعات" شاملة على المستوى الفكري والحركي والسياسي، متضمنة مختلف القيادات والقواعد التنظيمية، وأن تعلن حل كيانها التنظيمي، وتجميد نشاطها، والانصهار في المجتمع المصري من دون أي مشاريع دعوية أو سياسية أو اجتماعية، والانصياع لمؤسسات الدولة ودستورها وقوانينها، وأن تعلن فك التنظيم الدولي تماماً، والتخلي عن مشروع "دولة الخلافة" بناءً على قناعات فكرية وعقائدية وسياسية وقومية.
بالتأكيد لسنا ضد "المراجعات الفكرية الذاتية"، لكن هذا لا يمنح أصحابها فكرة التخارج من جدران السجون أو التغاضي عن قضاء مدة الحبس، حتى لا يتم توظيف الأمر في إطار "التقية"، لا سيما أن عدداً كبيراً من القواعد التنظيمية شارك في أعمال العنف المسلح، والتعدي على مؤسسات الدولة، بغية إسقاطها انتقاماً من الشارع المصري لإطاحته محمد مرسي، بعدما تحول إلى مجرد دمية في أيدي قيادات مكتب الإرشاد التي جعلت الدولة مجرد "شُعبة" تابعة للتنظيم.