طبيعي أن يرفض قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان المشاركة في اللقاء الذي دعت إليه الولايات المتحدة في جنيف من أجل بلوغ تسوية تنهي الحرب العبثية في السودان. وجد في الشكليات سبباً لعدم إرسال الجيش السوداني وفداً إلى جنيف، علماً أن المفاوضات لم تكن برعاية أميركيّة فقط. هناك رعاية سعوديّة وسويسرية أيضاً، وهناك مراقبون من الاتحاد الأفريقي ودولة الإمارات العربيّة المتحدة ومصر والأمم المتحدة.
يعرف البرهان الذي يخوض حرباً مع قوات التدخل السريع، التي يقودها جنرال آخر هو محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أن كلامه عن استعداد للقتال "مئة عام أخرى" لا فائدة منه، لكنه يعرف أيضاً ثمن المشاركة في مفاوضات تخرج السودان من أزمته وتسمح بعودة السلم الأهلي في ظروف طبيعية بعيداً عن هيمنة الإخوان المسلمين ونظام عمر حسن البشير الذي انتهى، قبل خمس سنوات... لكن من دون أن ينتهي.
يعرف البرهان، قبل أي شيء آخر، أنّ ثمن رفض الرضوخ لمشيئة الإخوان المسلمين سيكون غالياً جداً وسيدفعه من حياته. يعرف ثمن أي مواجهة بينه وبين الإخوان. بل تقول بعض الأوساط إنّه قد يكون منهم. ليس سراً أن قائد الجيش السوداني يعرف من وراء محاولة اغتياله في منطقة جبيت شرق السودان أواخر الشهر الماضي في أثناء تخريج دورة ضباط سودانيين. وقتذاك، استهدفت طائرة مسيرة البرهان. أدى ذلك إلى مقتل عدد من مرافقيه. كان سهلاً اتهام قوات التدخل السريع بأنّها وراء محاولة الاغتيال. من الصعب الاعتراف بأنّ الجهات التي ترفض أي تسوية معقولة هي التي تقف وراء تلك المحاولة. من هي الجهات التي ترفض التسوية؟ الجواب أنّ هذه الجهات هي تلك التي تعتقد أنّه ليس في الإمكان انتزاع السلطة منها وأنّ رحيل نظام عمر حسن البشير لا يعني خروجها من السلطة. إنّها مجموعة من الضباط تحلم بعودة الإخوان المسلمين إلى السلطة بغطاء من عبد الفتاح البرهان، تماماً كما كانت عليه الحال أيام عمر حسن البشير. هؤلاء الضباط يؤمنون بأن لا شيء يمكن أن يتغيّر في السودان، وذلك منذ وصول الإخوان إلى السلطة صيف تلك السنة قبل ربع قرن من الزمن.
من الواضح أن البرهان فهم الرسالة التي جاءت بها الطائرة المسيّرة. فحوى الرسالة أنّ عليه رفض أي مفاوضات تؤدي إلى تسوية تنهي مأساة السودان بأبعادها المختلفة، بما في ذلك البعد الإنساني. عليه لعب دور الواجهة للإخوان المسلمين في السلطة لا أكثر، بعيداً عن الاستجابة لمطالب المجتمع المدني الذي خلع نظام البشير قبل خمس سنوات. وقتذاك، أظهر المجتمع المدني السوداني حيوية وإصراراً كبيرين إلى أن حصل الانفجار الكبير بين البرهان و"حميدتي" الذي كان نائبه في مجلس السيادة السوداني، الذي كان مفترضاً أن يكون مجلساً موقتاً فقط مهمته الإشراف على مرحلة إنتقالية.
ظاهراً، يريد البرهان من خلال كلامه عن استمرار الحرب وإصراره على ذلك، إرضاء الإخوان المسلمين، بقايا نظام البشير. يسير في هذا الاتجاه، علماً أنه يعرف أن لا مجال لأي انتصار من أي نوع على "حميدتي". من أجل البقاء في السلطة، تبدو كلّ الوسائل صالحة ومبرّرة، بما في ذلك الكلام عن تشكيل حكومة موقتة سماها قائد الجيش السوداني بـ"حكومة تكنوقراط".
ليست الرغبة في البقاء في السلطة وحدها التي تفسّر الموقف السلبي الذي يتخذه البرهان من المبادرة الأميركية الهادفة إلى إنهاء حرب مستمرة منذ أيار (مايو) من العام الماضي، أدت عملياً إلى تفتيت السودان ونشر الجوع والمرض في كلّ أنحائه. يكمن التفسير المنطقي لتصرفات قائد الجيش السوداني في الخوف من الإخوان المسلمين الذين تغلغلوا داخل نظام البشير ويرفضون الخروج من السلطة. كشف الإخوان مدى نفوذهم عندما عرقلوا أي مسعى لتسوية منذ سقوط نظام البشير. رسموا للبرهان إطاراً للدور الذي عليه لعبه، وهو إطار لا يستطيع الخروج منه، بل يعرف ثمن الخروج منه.
يبدو جلياً أنّ أبواب الحل في السودان مسدودة من كلّ الجهات في ظلّ إصرار الإخوان المسلمين على استعادة السلطة. لا يدري هؤلاء أن الخطى التي يسيرون عليها لن تبقي للسودان أثراً. تشظى البلد مثلما تشظّى اليمن منذ انقلاب الإخوان على علي عبد الله صالح ونظامه قبل ثلاثة عشر عاماً. يسير السودان على خطى اليمن الذي تحول خطراً على محيطه وبات قاعدة صواريخ إيرانيّة في شبه الجزيرة العربيّة!