كعادتهم، انقسم اللبنانيون في فهمهم وتقييمهم لرد "حزب الله" على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية قبل نحو شهر بضربة إسرائيلية أصابت منزله. وهو انقسام مديد وحاد على ملفات سياسية واجتماعية وحياتية واقتصادية...
اصطف اللبنانيون علناً في معسكرين: معسكر "حزب الله" وحلفائه الذين احتفلوا بالرد الصاروخي والمحمول بطائرات مسيرة استهدفت مواقع إسرائيلية، معتبرين أنه أعاد توازن الرعب الذي سيمنع إسرائيل من تكرار اغتيالات مشابهة، ومعسكر المعارضين للحزب وانخراطه في حرب المساندة لغزة و"حماس" الذين رأوا أن الرد كان هزيلاً وفاشلاً ولم يوجع إسرائيل خلافاً لما كان ردده الحزب على مدى الأسابيع الماضية من أنه سيكون مزلزلاً وفي حجم عملية اغتيال شكر.
وبين المعسكرين المتقاتلين على شاشات التلفزيون وفي مواقع التواصل الاجتماعي قتال بلغ حدود التحدي والشماتة وتبادل الشتائم ونبش التاريخ، لا بد من قراءة هادئة لرد "حزب الله" ربطاً بتطورات الحرب على غزة ومسار المفاوضات الجارية في القاهرة والدوحة وغيرهما من العواصم من أجل التوصل إلى صفقة توقف الحرب الوحشية على الفلسطينيين، وكذلك بمستجدات الحرب في أوكرانيا التي انتقلت إلى الداخل الروسي في تطور مفاجئ وخطير، واقتراب موعد الانتخابات الأميركية بعد التطور الدراماتيكي بخروج جو بايدن من السباق الرئاسي لمصلحة نائبته كامالا هاريس التي بدأت حملة قوية في مواجهة المرشح الجمهوري الإشكالي دونالد ترامب.
أولاً، يعرف الجميع، ومنهم "حزب الله"، أن ميزان القوة يميل لمصلحة إسرائيل بوضوح لا لبس فيه، لا سيما في مجال التكنولوجيا والجو والاستخبارات والدعم الخارجي. ربما يكون "حزب الله" قد أسهم في جعل سقف التوقعات أعلى من الإمكانات، لكن الحزب يخوض أيضاً حرباً نفسية على مستويين: داخلي وخارجي، وهو استطاع أن يبقي إسرائيل مستنفرة خلال نحو شهر من الزمان، كما نجح في استقطاب اهتمام دولي واسع بالوصول إلى حل ما للحرب الدائرة في المنطقة تخوفاً من انزلاق نحو حرب واسعة تضطر فيها أميركا ودول الغرب التدخل لنصرة إسرائيل، مع ما يعنيه ذلك من أخطار ومن كلفة.
ثانياً، حافظ الحزب على الغموض الذي يغطي ترسانة أسلحته "الاستراتيجية" التي يخبئها لأيام أقسى، فصواريخه الدقيقة والبعيدة المدى لا تزال في مخابئها، والأهداف التي استهدفها هي في متناول صواريخ الكاتيوشا القديمة والمحدودة الفاعلية.
ثالثاً، أتى رد الحزب ضمن قواعد الاشتباك القائمة رغم مئات الصواريخ والطائرات المسيرة المستخدمة في الرد، فليست المرة الأولى التي يستهدف الحزب قواعد عسكرية بالطائرات المسيرة، وهو تجنب إصابة مواقع مدنية وحيوية إسرائيلية.
رابعاً، فصل "حزب الله" رده عن الرد الإيراني على اغتيال إسماعيل هنية في طهران، وهذا يعني النأي بنفسه وبلبنان عن تداعيات الرد الإيراني - إذا حصل - وتجنب وضع نفسه في موقف المتردد المساوم، إذا لم يحصل الرد الإيراني المحكوم باعتبارات معقدة، من السياسي إلى العسكري إلى النووي إلى حسابات الربح والخسارة.
خامساً، أظهر "حزب الله" واقعية وبراغماتية في رده المضبوط على اغتيال شكر، وأشاع جواً من الارتياح في الساحة اللبنانية بعد شهر من القلق والتوتر الشديدين. وليس سراً أن الحزب كان محكوماً طوال الأشهر العشرة الماضية بمزاج الرأي العام اللبناني. صحيح أنه دخل الحرب، لكنه حرص على محدوديتها وحصر أضرارها في بيئته القادر على تعويضها، طبعاً ذلك لا يلغي تأثيرها على بقية اللبنانيين، لكن بالإجمال الأضرار الكبرى وقعت على جمهور الحزب وجماعته.
سادساً، ربما يكون رد "حزب الله" االمضبوط مؤشراً إلى نجاح العالم في منع الحرب من التوسع على الجبهة اللبنانية في ظل تضارب المعلومات عن مسار التهدئة على خط حرب غزة، وإلى احتمالات المستقبل على هذه الجبهة.
سابعاً، استطاع "حزب الله" أن يقنع جمهوره ومحوره بقدرته على الرد، فيما لم يقنع معارضيه الذين بقوا على موقفهم المنتقد لانخراطه في الحرب معتبرين رده "مسرحية". والانقسام اللبناني حول موضوع المشاركة في الحرب وحول "حزب الله" وسلاحه سيبقى قائماً إلى ما شاء الله.