أربعة تطوّرات تُشغل فرنسا: انطلاق الألعاب البارالمبية الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، وسوف تستمر حتى 8 أيلول (سبتمبر) المقبل ضمناً؛ نشر مجلة "شارلي إيبدو"، بمناسبة عيد انتقال السيدة العذراء، في 15 آب (أغسطس) رسماً كاريكاتوريّاً يظهر السيدة العذراء مصابة بتقرحات "جدري القردة"، فتتعرّض لكم كبير من الشتائم التي يعتمدها السوقيّون في فرنسا؛ توقيف مالك تطبيق "تلغرام" بافيل دوروف في أثناء وصوله إلى مطار "لوبورجيه" الخاص بالطائرات الخاصة، للتحقيق معه في جملة اتهامات موجّهة إلى المنصة التي يملكها؛ وتداعيات رفض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تعيين مرشحة "الجبهة اليسارية الجديدة" لوسي كاستيه رئيسة للحكومة الفرنسية المفترض أن يتم تشكيلها بعدما ضربت حكومة غبريال آتال، الموالية لماكرون، الرقم القياسي في مدة تصريف الأعمال.
شخص واحد يربط بين هذه التطورات المختلفة: إيمانويل ماكرون الذي تنشط الماكينات السياسية المناهضة له في إسباغ صفات الديكتاتور عليه!
في السردية الفرنسية، يستغل ماكرون الأجواء الاحتفالية التي تسبق الألعاب الأولمبية والبارالمبية من أجل إلهاء الناس عن مشاكلهم السياسية والاقتصادية، وكسب أطول وقت ممكن لتمرير سياساته التي تقوم على عزل "صوت الشعب" عن بنية السلطة التنفيذية. وهو بذلك مثله مثل أباطرة الرومان الذين كانوا، وبهدف القفز فوق غضب الشارع، ينظمون الألعاب الرياضية والقتالية في الكوليزيه، في روما!
ويستفيد ماكرون من القبضة الأمنية غير المسبوقة، في فرنسا عموماً وباريس خصوصاً، من أجل احتواء ردات فعل المتضررين من قراراته، ولا سيّما اليساريون منهم الذين طالما لجأوا إلى الشارع للضغط لمصلحة تطلعاتهم وأهدافهم.
لكن "فترة السماح" لماكرون قاربت على الانتهاء، فرفضه العلني تعيين لوسي كاستيه التي اختارها التجمع اليساري بعد نيله أكثرية نسبية في الجمعية العمومية في الانتخابات البرلمانية المبكرة، بداعي أنّها غير قادرة، في ضوء الاستشارات التي أجراها مع القوى النيابية في البلاد على تشكيل حكومة غير قابلة للسقوط في البرلمان، لا يبدو أنّه سيمر مرور الكرام. حزب "فرنسا الأبية" بزعامة جان لوك ميلانشون، وبعدما قدّم تنازلات من أجل تمكين اليسار الموحّد من الوصول إلى السلطة، قرّر السير بمسألتين متزامنتين: الأولى، التظاهر في 7 أيلول (سبتمبر) المقبل ضد "ديكتاتورية" ماكرون الذي يتعامل مع البلاد كما لو كان الملك لويس الرابع عشر. فحزب ميلانشون يرغب في أن يدفع بالرئيس الفرنسي ليلاقي، ولو من دون المقصلة، مصير الملك لويس السادس عشر الذي أطاحته الثورة الفرنسية، بالتدرج، بحيث بدأت بحرمانه من صلاحياته المطلقة قبل أن تقطع رأسه. وقد بدأت هذه الدعوة إلى التظاهر في اليوم الذي يسبق انتهاء الألعاب البارالمبية، بهدف تحدّي "الموانع الأمنية" التي يحتمي وراءها الرئيس الفرنسي، تلقى تأييداً سياسيّاً وحزبيّاً وشبابيّاً ونقابيّاً. أما المسألة الثانية، فهي إعداد عريضة لإسقاط رئاسة ماكرون، بداعي ضرب الأسس الدستورية التي تقوم عليها البلاد، ونحر الديموقراطية بالإقدام على تجاهل "إرادة الشعب". مجريات الأمور في فرنسا السياسية لا تعطي هذه الخطوة الدستورية أي حظوظ في النجاح، لكنّها كفيلة بتوسيع دائرة التعاطي مع ماكرون على قاعدة أنّه "ديكتاتور".
ولن يحظى ماكرون بحماسة دفاعية، لا من اليمين المتطرف ولا من تجمع الدينيين في فرنسا، إذ دخلت مجلة "شارلي إيبدو" مجدداً لإثارة الغضب. هذه المرة، تقاطع كاثوليك البلاد مع المسلمين. يحمّل هؤلاء ماكرون مسؤوليّة تحويل "حق التجديف" إلى "حق إهانة المقدسات"، فهو، مقابل أن يأخذ راحته في العمل السلطوي يسترضي "الفاجرين" ويمنحهم حصانة "حرية التعبير" التي بدأت تؤثر سلباً على الوئام الوطني.
وقد تحرك كاثوليك فرنسا بفاعلية ضد مجلة "شارلي إيبدو"، فصدرت العرائض وتقدمت الدعاوى وارتفعت المطالب بعمل جاد من أجل وضع حدّ لإهانة المقدسات.
بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ ماكرون الذي يبذل جهده لإدخال حق الإجهاض في الدستور، لا يحرك ساكناً لحماية المقدسات من الإهانات المكررة.
ويأتي ما فعلته "شارلي إيبدو" ضد السيدة العذراء، فيما لم يتلاشَ بعد صدى الضجة التي أثارها "الالتباس" في التشابه بين لوحة "عشاء الآلهة" الإغريقي ولوحة "العشاء السرّي" المسيحي، وهي اللوحة الفنية "الماجنة" التي قيل عنها الكثير بمجرد انتهاء الحفل الافتتاحي للألعاب الأولمبية!
ولم يكن ينقص ماكرون سوى الدخول العلني لروسيا على خط "ديكتاتوريته"، بعد توقيف مالك تطبيق "تلغرام" بافيل دوروف. بالنسبة إلى الاستخبارات الفرنسية، هذا التطبيق مسؤول عن "موبقات" كثيرة تُرتكب بحق الأمن الفرنسي، فهو، إضافة إلى استعماله لترويج الشائعات ضد الرئاسة الفرنسية، يستعمل "حرية التعبير" لحماية مجموعات إجرامية وإرهابية. المأخذ الأساس على دوروف، الذي احتفت فيه فرنسا في العام 2021 ومنحته جنسيتها، يتمحور حول رفضه التعاون مع العدالة، من خلال حرصه على إبقاء مجموعات تستغل تطبيق "تلغرام"، من أجل تجارة المخدرات وتنظيم العمليات الإجرامية والترويج للإرهاب، مجهولة الهوية.
الدعاية الروسية تعاملت مع خطوة النيابة العامة الفرنسية على قاعدة أنها خطوة قمعية ضد أحد مواطنيها، ونجحت في تحريف النقاش عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في تعريض الأمن القومي للخطر، إلى نقاش حول سلوك ماكرون نفسه الذي تمّ اعتباره يرعى خطوة تستهدف مواطناً روسيّاً. وبفضل روسيا، تمّ تجاوز المآخذ على "تلغرام" ومدى صحتها، إلى اعتبار ماكرون استنسابياً في تفسيره للحريات. فهو فيما يستقبل في قصره مالكي "تويتر" و"فايسبوك"، مثلاً، يعتقل مالك "تلغرام". وسبب ذلك، وفق الدعاية الروسية التي لم ترحم فرنسا منذ حسمت موقفها إلى جانب أوكرانيا، أن دوروف روسي ومنافسَيه أميركيان!
قد يستغرب من يعرف عن كثب الطغاة الحقيقيين المنتشرين في الشرق والغرب، وجلّهم يحظى بدعم حزب "فرنسا الأبية" ودفاع مرافعات جان لوك ميلانشون البليغة، أن يتم إطلاق لقب "ديكتاتور" على إيمانويل ماكرون، لكن هذه هي حال فرنسا في هذه الأيّام!