النهار

هل يفوز توسك بالرّئاسة ويخسر بولندا؟
عمّار الجندي
المصدر: النهار العربي
كان السياسي المخضرم قد تعهد بعد الانتخابات "بإصلاح كل شيء" وبسرعة. إلا أنه لم يستطع أن يفي بوعوده هذه حتى الآن!
هل يفوز توسك بالرّئاسة ويخسر بولندا؟
توسك متحدّثاً قبل عرض عسكري في وارسو في ذكرى انتصار 1920 على الاتحاد السوفيتي (ا ف ب)
A+   A-
حين أطلق دونالد توسك (67 عاماً)، زعيم حزب "الائتلاف المدني" رئيس وزراء بولندا، قبل أيام الحملة الانتخابية قبل الانتخابات الرئاسية المتوقع إجراؤها في أيار (مايو) 2025، ظن مراقبون أنه بدأ في وقت مبكر أكثر مما ينبغي. وتردد أنه يجازف بجعل الناس يملون من الانتخابات وسيرتها، وبالتالي يمتنعون عن المشاركة فيها. لكن، لعلّ تجربته مع التفاؤل، بُعيد فوزه مع شركائه بأغلبية مريحة (233 من 460 مقعداً) في انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، علمته وجوب عدم تضييع أي لحظة والعمل على أساس أسوأ السيناريوهات، لأن الافتراضات التي تدغدغ الأنا وتزركش المستقبل بصور برّاقة لا تصدق.

كان السياسي المخضرم قد تعهد بعد الانتخابات "بإصلاح كل شيء" وبسرعة. إلا أنه لم يستطع أن يفي بوعوده هذه حتى الآن! وعجز أخيراً عن المسّ ببعض مراكز القوى التابعة لخصومه في حزب "القانون والعدالة" الذين حكموا البلاد منذ عام 2015، فهو لم يتمكن من إزاحة رئيس البنك المركزي الذي عينوه، وأقرّ صراحة قبل مدة وجيزة بأنه لن يستطيع تحقيق أحد التزاماته الرئيسية: استصدار تشريع يسمح بالحق في الإجهاض الذي حرصوا على مصادرته.

والسبب الأساسي في عدم وفائه بهذا وغيره من تعهداته يعود إلى أن حزبه لا يحكم البلاد وحده. وقد خاض المعارك خلال الأشهر العشرة الماضية على جبهتين: مع شريكيه في الحكم، "الطريق الثالث" اليميني و"اليسار الجديد"، من جهة، ومع الرئيس أندريه دودا الذي يعتبر من أقطاب العهد الماضي، من جهة أخرى.

والحقيقة أنّ أحزاب التحالف الحاكم الثلاثة دخلت الانتخابات منفردة، احتفظ كل منها ببرنامجه السياسي المتناقض أحياناً مع ذاك الذي تبناه كل من شريكيه. قيل أولاً إن هذه كانت "ضربة معلم" لأنها ساعدت كل حزب على تجنب استفزاز ناخبيه وتنفيرهم لتبنيه أجندة واحدة مع خصم أيديولوجي. واستطاعوا، عموماً، التعايش مع "زواج المصلحة"، ما سمح للحكومة بأن تقوم ببعض التغيير، وإن ببطء. كما تمكن حزب "الائتلاف المدني" من الفوز في حزيران (يونيو) الماضي بسبعة مقاعد جديدة في البرلمان الأوروبي، خسر مثلها "القانون والعدالة" من مقاعده السابقة.

وكان العامل الأهم في كبح جهود رئيس الوزراء الرامية إلى تطبيق برنامجه هو الرئيس أندريه دودا (52 عاماً). ومع أن هذا لا يتمتع بصلاحيات حقيقية، بوسعه أن يدس العصي في العجلات لأن القوانين لا تصبح نافذة ما لم يذيّلها بتوقيعه. ووقف بالمرصاد للحكومة، حريصاً على استغلال صلاحياته بالحد الأقصى لتعطيل عملها. مثلاً، منعها من القيام بإصلاحات دستورية حقيقية، كما رفض التوقيع على قرارات تعيين سفراء اختارهم خصمه. وكان متوقعاً من توسك أن يتعامل بكفاءة أكبر مع هذا الوضع، بفضل الخبرة التي اكتسبها كرئيس للوزراء في "المواجهة" لثلاث سنوات (2007 - 2010) مع الرئيس ليخ كاتشينسكي، المؤسس المشارك لحزب "القانون والعدالة".

أما وقد شارفت ولاية دودا الثانية والأخيرة على النهاية في أيار (مايو) المقبل، استنفر الحزب الحاكم للترويج لرافال تشاسكوفسكي، عمدة العاصمة وارسو، وهو مرشحه الرئاسي المرجح. فهذا يحظى بشعبية واسعة في أوساط جيل الشباب خصوصاً، أي مستودع الدعم الأساسي الذي أوصل "الائتلاف المدني" إلى المرتبة الثانية، من حيث عدد المقاعد البرلمانية. والعمدة يساري، علماني، يساند مجتمع الميم، الأمر الذي جعله عدواً لدوداً لحزب "القانون والعدالة". والواقع أنه كاد ينتزع الفوز من دودا نفسه في انتخابات عام 2020.

وتوسك أطلق رصاصة البدء في الحملة يوم الجمعة الماضي بمسيرة حاشدة تصدرها هو وتشاسكوفسكي. لم يكشف بعد عن مرشح حزب المعارضة الرئيسي، "القانون والعدالة"، الذي تعاقب على هذا المركز مع "الائتلاف المدني" منذ عام 2005. ومتوقع أن يكون للعمدة حظ لا بأس به بالظفر بالمنصب، بحسب استطلاعات الرأي، ولا يُستبعد أن يفوز به في الجولة الأولى، فلا يكون هناك حاجة لإجراء جولة ثانية بعد أسبوعين لحسم الأمر. لكن قد يعارض "الطريق الثالث" الشريك اليميني في الحكم، ترشيحه.

في هذه الأثناء، لا شك في أن الممانعة التي لقيها توسك على هاتين الجبهتين في الأشهر التسعة الأخيرة رسمت صورة مختلفة للسياسي الذي تسلّم سابقاً رئاسة المجلس الأوروبي. فقد اضطر للتخفيف من حماسته لتنشيط علاقات بلاده مع بروكسل، وتراجع عن تأييد "قانون استعادة الطبيعة" الصادر عن الاتحاد الأوروبي. كما نسّق في وقت لاحق جهوده مع فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر الشغوف بعرقلة قرارات الاتحاد، بهدف معارضة اتفاق كان يرمي إلى توزيع المهاجرين توزيعاً أكثر تكافؤاً بين الدول الأعضاء. وأُخذ عليه التصرف بخصوص الهجرة و"الصفقة الخضراء" والإصلاح الدستوري كسياسي محافظ بعيد عن الليبرالية التي ادعاها على الدوام، الأمر الذي قد يؤثر سلباً في علاقات وارسو ببروكسل.

السباق الرئاسي مهمّ للغاية، أقله لتمكينه من الوفاء بالتزاماته، والقيام بالإصلاحات الدستورية الجذرية التي من شأنها أن تُعيد بولونيا إلى الخط الديموقراطي الليبرالي الذي يتبنّاه الاتحاد الأوروبي. كما أن الانتخابات تمثل لحظة مفصلية بالنسبة إلى حزب "القانون والعدالة" المهدد بالتفتت إذا خسر آخر مواقع القوة التي تجعله قادراً على التأثير في حياة البلاد. وإذا اضمحل الحزب اليميني الذي حمل لواء الشعبوية في أوروبا الشرقية ذات يوم، يُخشى أن يؤدي ذلك إلى تعاظم نفوذ أحزاب صغيرة بولندية أكثر تطرفاً ومعاداة للسامية والإسلام، وروسيا، والاتحاد الأوروبي.

ثمة تساؤلات مشروعة عما إذا كان رئيس الوزراء قادراً، بالتعاون مع قوى ليبرالية ويسارية، على درء أخطار التطرف المتفاقم في السنوات الخمس المقبلة التي تفصل البلاد عن الانتخابات التالية. فهل يفوز "الائتلاف المدني" بالرئاسة، ويفتح الباب أمام فئات قد تغرق بولندا في مدّ عنصري يصعب لجمه؟
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium