يبدو واضحاً أن الحروب في المنطقة تجري في فلسطين وفي لبنان، ولكن صناعة التسويات تحصل في أماكن أخرى، وعلى عناوين مختلفة. تلك هي القاعدة الميكيافيلية حيث الوصول إلى الهدف – حتى ولو كان غير مشروع – يبرر استخدام أي وسيلة، بما في ذلك الوسائل القذِرة التي لا تُقرها قوانين الحروب، ولا بديهيات أخلاق العمل السياسي.
تدور الدوائر على الشعب الفلسطيني، وهو يدفع ثمن الإجرام الإسرائيلي المتفلِّت من كل القيود، كما يُسدِّد فاتورة الغباء السياسي "الحليف" أو الصديق. وما يجري في قطاع غزة منذ ما يقارب العام؛ حربُ إبادة في كل ما تعنيه الكلمة، وهو حصل بذريعة عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ولكن الذريعة لا تكفِ لو لم تكُن هناك نيات مُبيَّته تتحيَّن الفرصة للانقضاض على حالة فلسطينية تتنامى ديموغرافياً وسياسياً، وربما عسكرياً، وتُشكل خطراً على مستقبل كيانٍ غاصب، احتل القسم الأكبر من الأرض الفلسطينية، وهو يتمدَّد للسيطرة على ما تبقى منها في غزة وفي الضفة، وهدفه طرد السكان الأصليين، وإحلال مستوطنين من اليهود المتطرفين مكانهم.
وعلى جوانب مسيرة الموت الفلسطينية المؤلمة يتفرَّج الخانعون، ويتحيَّن المُستغلون الفرص لاستثمار التضحيات الفلسطينية واللبنانية على مذبح مقاصة التسويات الخبيثة، حيث يلتقي الأعداء حول طاولة تقاسم المغانم، وأحياناً يُبرر الضحايا لهؤلاء فعلتهم الشنيعة، فحيناً يبدو المشهد متماسكاً بين قوى المحاور المتقابلة، وحيناً آخر تظهر استراتيجيات أخرى تُنشِدُ التفرُّد، أو الانفراد باتخاذ القرار، فتحمِّل الإدارة الأميركية العميقة مسؤولية ما يحصل لإسرائيل بكل ما يُرتكب من مجازر، من ثُمَ تُرسل الأساطيل للدفاع عنها إذا ما تعرَّضت لأي خطر. وعلى الجانب الآخر؛ الوضع ليس بأفضلِ حال، حيث نشيد وحدة الساحات يُعزف حيناً، وحيناً آخر يعود القرار إلى الضحايا لتدبير أمرهم، لأن السياسات العليا للدول الفاعلة لا تسمح لها بمزيد من المغامرات التي تعرِّض مصالحها للخطر.
أبادت إسرائيل فلسطينيي غزة، ومَن لم يسقط منهم شهيداً أو جريحاً؛ بقيَ ضحية في أرضٍ محروقة ليس فيها الحد الأدنى من مقومات الحياة، ولا يكفي مع هذه الوضعية التغنِّي بمقولة شعب الجبارين – وهو كذلك – لأن المأساة فاقت كل تصوُّر، والإذلال الذي حصل وسط الصمت الدولي؛ ليس له مثيل، ووصل الأمر إلى حد منع دخول أدوية التلقيح للأطفال الفلسطينيين ضد الأمراض المُعدية، بينما المياه الآسنة تجري بين خيام البؤس السجينة، بما يُشبه أسلحة جرثومية يستخدمها الاحتلال لإبادة مَن بقيَ على قيد الحياة.
وتُستكمل حلقة القتل والاستيلاء على الأراضي في الضفة الغربية، ويدور على ما تبقى من مساحات "أريحا" ومحيطها جنونٌ إرهابيٌ مُخيف، وما تعجز عن تنفيذه آلة القتل الإسرائيلية، يقوم به المستوطنون المُدجّجون بالسلاح، وقوانين دولة الاحتلال اللا شرعية تسمح لهم بامتهان التنكيل، بينما قوانين الشرعية الدولية تنكفئ في جوارير الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، لا حول لها ولا قوة.
ومن الواضح أن مخطط اليمين المتطرف في إسرائيل يستهدف طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية، أو إخضاعها "للسيادة الإسرائيلية"، لكن وضعية الأردن الدقيقة تؤخِّر تنفيذ هذا المُخطط الجهنمي، ولم يخفِ الوزيران المتطرفان في حكومة بنيامين نتنياهو إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش هذه النيات العدوانية.
يقول أصدقاء فلسطينيون مقربون من الرئيس محمود عباس إن قيادات السلطة الفلسطينية متخوفة أكثر من أي وقت مضى مما يجري، وخيبة الأمل عند هؤلاء كبيرة للغاية، لأن معظم الوعود التي أعلنت بقرب انتهاء الحرب وبإيجاد تسوية تحفظ الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية؛ كانت واهية. والسلطة الفلسطينية التي وافقت على إبرام اتفاق مع حركة "حماس" في 22 تموز (يوليو) الماضي في الصين، فعلت ذلك بعد وعد قاطع تلقته بأن الحرب على غزة ستنتهي إذا سُحبت إدارة القطاع مستقبلاً من حركة "حماس" وعادت إلى يد حكومة وحدة وطنية فلسطينية. وكل ذلك لم يحصل، لأن ساحات المعركة في مكان، وصالونات التسوية في أماكن أخرى، والذين يتحكَّمون بمفاصل الحلول المنشودة، لا يعيرون أي اهتمام لمستقبل فلسطين، ولا لحقوق شعبها المُعذَّب، وتتحكَّم بأهوائهم مصالح استراتيجية لدولهم الكبرى، وغالبيتها تتلاقى مع الأهداف العدوانية الإسرائيلية.
وتذكر المعلومات المتداولة – أو المخفية عن التداول – أن القوى التي تتمتع بنفوذ كبير في الإدارة الأميركية، ما زالت على موقفها من أهمية تعزيز مكانة إسرائيل الإقليمية، لأسباب عقائدية، ولأسباب تتعلَّق بالمصالح الأميركية العليا، وأهمها: إبقاء السيطرة على المنطقة العربية، لمحاصرة أصدقائهم الأوروبيين من جهة، ولمنع أي تواصل بين شعوب أفريقيا وشعوب آسيا الوسطى العربية والإسلامية، كما أن تأثير اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية (إيباك) ما زال قوياً، وهو يدفع أي إدارة لتخصيص مزيد من الدعم المالي والعسكري لإسرائيل.
في المقابل؛ فإن قوى المحور الآخر المؤثرة في صنع قرارات المقاومة الميدانية، تتطلع إلى تحقيق نفوذ إقليمي أوسع، وحماية البرنامج النووي العسكري الإيراني الواعد، والمعطيات تؤكد قرب الوصول إلى تسوية تحفظ مصالح هذه القوى الكبرى، ولا تُعير مزيداً من الاهتمام لتضحيات الفلسطينيين واللبنانيين الذين خاضوا المعركة، وتكبدوا الخسائر.
كل ذلك يحصل جراء غياب الدينامية العربية والدولية المساندة للفلسطينيين، والمسؤولية عن ذلك لا تقع على طرفٍ واحد، بل يتحملها الجميع، بمن فيهم الذين دفعوا فاتورة الدم.