حين قرّر جو بايدن التنحّي، لم يقم بذلك عبر بلاغ رئاسي، ولا بيان صحافي، بل عبر منصة "إكس" للتواصل الاجتماعي. بدورها، لم تنتظر كامالا هاريس طويلاً كي تقلب المعركة الانتخابية رأساً على عقب، شكلاً ومضموناً. فلقد بدأت حملة هاريس بإدراج جنوني لـ"ميمز" (Memes)، وهي أفلام ساخرة رمزية قصيرة على "يوتيوب"، لنجم البوب تشارلي (XCX) الذي أعلن ألبومه الجديد "كامالا كامالا الشقية" (أو كامالا الفطنة الماكرة). وتبعت كامالا ذلك بـ"ميمز" يُظهر صورتها تتفتح من شجرة جوز الهند، تأكيداً لأصولها الآسيوية والأفريقية.
بعدئذٍ، تفتّحت "الميمزات الانتخابية" على مصراعيها، وتدافعت تفاعلات المؤثرين الرشيقة والهزلية لصالحها وصالح ما تحمله من قيم. وبعدما كان الشباب متشكّكاً وراكداً لوقت طويل، تدافع للمشاركة. نعم، لم تخلق هذه الميديا الجديدة زخماً سياسياً فحسب، بل دفعت إلى السطح بمجموعة جديدة من القيم السياسية والأخلاقية الشبابية، الأمر الذي لم يدركه البعض إلا متأخّراً. وحين علّق فانس - مرشح الحزب الجمهوري لنيابة ترامب - منتقداً هاريس كونها "سيدة عاقر تحبّ القطط"، فاته تماماً إدراك مدى حساسية جيل الميديا الجديدة للخيارات المعنوية والجسدية للأفراد، ليثير موجة عارمة من الغضب، حتى لدى شباب حملته الانتخابية ذاتهم.
حشدت هاريس هذه "الميمزات الشقية" لتضع أسئلة حيوية أمام حملة ترامب، وكان عليه أن يقوم بسرعة باستيعاب الدرس، وأن يندفع مسرعاً لتجنيد ترسانته الإعلامية في إنتاج أدوات مضادة.
يسمح التنافس المنفلت في الانتخابات الأميركية باختبار تأثير أدوات الإعلام الجديد بكل ما تحمله من تفكيك للقديم وبحث عن الجديد! وكما حصل لساعات اليد الميكانيكية، حصل للإعلام التقليدي. فبعد عقود من تحكّم الإعلام التقليدي، ومن ورائه النخب السياسية، وحيتان رأس المال، انتقمت الميديا الحديثة وفرضت نفسها شكلاً ومحتوى، لتصبح الوسيلة الأقوى لإعادة صياغة الخطاب السياسي وأولوياته ذاتها.
لم يكن انفجار مواقع الإنترنت والمدونات، وتحييدها النسبي للصحافة والراديو والتلفزيون، كافياً. فلقد بقي الإعلام ضيّقاً محدوداً، يعكس قيم نخب محدّدة ومراكز معروفة. أما الآن، فثمة عملية كبرى وعامة لتعميم الإعلام، إذ لم تكتف الميديا الجديدة بإخراج الخطاب السياسي من سياقه النخبوي، بل سحبت احتكار النخب الفهيمة والمتحزبة للإعلام، ليصعد رهط مختلف تماماً من القادة أو المؤثرين عبر منصات X أو Facebook أو Instagram.
النتيجة الأخطر لهذا التحوّل هي توسّع دائرة تسيّس الناس، وتوسّع دائرة الناشرين، والمؤثرين، ومنتجي المحتوى. فلم تعد الحملات الإعلامية مجرد ضخ إعلامي أعمى للخبر والتحليل. وبعد أن أصبحت مصادر المعلومات مفتوحة ومتيسّرة، وبعد أن أصبح في مقدور كل فرد أن يغني الخبر ويلوّنه بخبرته الذاتية، نشأت أمام عيوننا ظاهرة إعلامية نوعية وجديدة تماماً. جوهر هذا التحوّل ظاهرة "التغذية الراجعة للخبر" بين منتج الخبر ومستهلكه. فالخبر يفقد جدّيته وقيمته من لحظة نشره، لكن كل إنسان مستهلك للخبر، في كل بقعة من الحبيبات المستهدفة في المجتمع، يقوم بدوره بإعادة تشكيل الخبر وتدويره في حلقات مرتجعة لا تنتهي.
مثالنا الأولي على ذلك هو الحلقات المرتجعة لتدوير حادثة مقتل المواطن الأسود "فلويد" على يد الشرطة في الولايات المتحدة. فلقد تحوّل خبر الجريمة إلى كرة ثلج تجاوزت كثيراً الأبعاد الأصلية للحادثة، لتولّد حركة احتجاج اجتماعي أثّرت بعمق في توجّهات المجتمع الأميركي.
في مقابلة مع إحدى وسائل الإعلام التلفزيونية، تقول إحدى الشابات من نيويورك: "إن الإعلام المتمثل في محطات التلفزيون باهت كطعم ’الخيار‘، لا يحمل أية حساسية لقيمنا ولا لقضايانا". أما في الإعلام النوعي الحديث، فلقد صارت الإعجابات والمشاركات على الميديا الجديدة هي التي تُملي قيمة الخبر وتُعيد تدويره.
وما لم يكن الخبر مصاغاً ومستهدفاً لكل تركيبة سكانية بعينها، وبحسب تفضيلاتها الفردية والجماعية، فسيموت الخبر لحظة ولادته. هكذا صاغت هاريس خطابها المستهدف والنوعي لضواحي ميتشيغان بخصوص الحرب في غزة، وهكذا صاغت خطابها الذي استهدف اللاتينيين في فلوريدا. ويحلّ جيلٌ جديد من الساسة والإعلاميين مكان الجيل القديم من الديموقراطيين، إنه جيلٌ من طراز مختلف تماماً. إنه أكثر حساسية ونوعية وشعبية.
قامت حملة هاريس بحملات اختبارية، لاختبار بعض الشعارات الجديدة والحصول على ملاحظات فورية قبل ترويج التوجّهات بشكل واسع، كما فعلت في ما يتعلّق بإطفاء الديون الطلابية وقضية السكن.
والآن، بعدما بقي لهاريس أقل من 80 يوماً للانتخابات، يمكننا القول إنه لولا استخدامها هذا الاندفاع الجنوني لترسانة من الوسائل الإعلامية الشبابية الحديثة، لما كان بإمكانها تحقيق هذا المستوى من الزخم، كما تجلّى خلال المؤتمر الوطني الديموقراطي.
لا يقلّ التحوّل النوعي الجاري على الضفة الأخرى للحزب الجمهوري عمقاً، لكنه يبدو أبطأ وأقل تفاعلاً حتى الآن. لكنني لا أشك، بأي قدر، في أن جيلاً جديداً مقابلاً سيصعد داخل الحزب الجمهوري لينتج خطاباً سياسياً ومشروعاً إعلامياً من طراز جديد أيضاً. ويستخدم ترامب، منذ الآن وببراعة تقنية، الدورة الإعلامية المرتجعة، ليفرض من خلال تغريداته أجندة النقاش ويحرّفه بعيداً من المسارات التي يريدها خصومه.
إضافة إلى ذلك، تستخدم حملتا هاريس وترامب "المؤثرين" كأدوات هي غاية في الفاعلية، لنشر الخطاب ونقل الانطباعات الإيجابية والسلبية المطلوبة. وبالنسبة إلى المرشحين، صارت وسائل التواصل الاجتماعي وليس مواقع الانترنت هي المكان الذي يحصل منه العديد من الأميركيين على أخبارهم، وخصوصاً بالنسبة إلى الناخبين الأصغر سناً، وتحوّلت جسراً للتواصل المباشر بينهم وبين الناخبين، يتجاوزون عبرها القنوات الإعلامية التقليدية.
في أيام وارنر ومردوخ، كان الجميع يتداولون معلوماتهم من الحوض الشحيح نفسه، وينقلونها أو ينقضونها مثل المسلّمات الرياضية. لكن، بعدما نزلت المعلومات من السماء إلى الأرض، لم تعد حكراً على النخب كي تشكّلها على طريقتها، بل يتحوّل الخبر من لحظة ولادته ملوناً وحساساً ومليئاً بالفروق والتمايزات.
أمام ظاهرة بهذا العمق، أؤكّد أنني أدرك عمق المخاطر التي تحملها هذه الظاهرة، سواء في ما يتعلق بمرجعية الحقيقة أو احتمالات تفاقم التعصب. لكن ما أثبتته أحداث أوكرانيا وغزة، وما تثبته هذه الانتخابات، هو أن سيطرة مالكي وسائل التواصل مليئة بالثقوب، وفي الإمكان ردع مصادر تشويه الحقيقة، بل يمكن تعميم الحقيقة والوعي السياسي من دون المخاطرة بتعميم السوقية السياسية والابتذال والتزوير.
ولعلي بذلك أؤكّد مرضي الفطري بالتفاؤل.