منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تعاملت إسرائيل مع الضفة الغربية على أنها جبهة ثالثة في هذه الحرب، بعد القطاع ولبنان: غارات بالمسيّرات ومداهمات لعدد كبير من المخيمات والمدن والبلدات، ما أسفر عن سقوط أكثر من 650 فلسطينياً واعتقال الآلاف.
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يشير دائماً إلى الضفة باعتبارها جبهة من الجبهات التي تخوض فيها إسرائيل قتالاً "وجودياً"، من غزة إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران. والعملية العسكرية الواسعة التي بدأها الجيش الإسرائيلي ليل الثلاثاء في جنين وطولكرم وطوباس في شمال الضفة الغربية، تحمل طابعاً أكثر خطورة من مجرد مداهمة أو استهداف لكوادر في الفصائل الفلسطينية، فهناك خشية من تطبيق نموذج غزة في شمال الضفة، وإلّا ماذا يعني تحذير وزير الخارجية الإسرائيلي إسرائيل كاتس من إمكان إصدار الأوامر بإخلاء موقت للمدنيين من مناطق العمليات؟
وعلى غرار الواقع الجديد الذي يسعى نتنياهو إلى تكريسه في غزة، تنذر أوسع عملية عسكرية إسرائيلية، منذ عملية "السور الواقي" في عام 2002، بإرساء معادلات جديدة في الضفة، تصبّ في مصلحة أحزاب اليمين المتطرّف التي تطالب بتوسيع الاستيطان ومصادرة المزيد من أراضي الفلسطينيين، وصولاً إلى تهجير الفلسطينيين إلى الأردن.
ماذا تعني أن تأتي العملية العسكرية غداة مطالبة وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرّف إيتمار بن غفير بإقامة كنيس في المسجد الأقصى، وقبلها اعتداءات المستوطنين المتصاعدة على البلدات والقرى الفلسطينية منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)؟
استراتيجية نتنياهو لم تتغيّر. ومن أجل الحفاظ على حكومته، منح بن غفير ووزير المال المتطرّف الآخر بتسلئيل سموتريتش مزيداً من الصلاحيات في الضفة الغربية، ما ضيّق الخناق أكثر على الفلسطينيين. بن غفير يوزع السلاح على المستوطنين، وسموتريتش يحتجز عائدات الضرائب التي تجبيها إسرائيل لمصلحة السلطة الفلسطينية.
في الأسبوع الماضي، بعث رئيس جهاز "الشين بيت" رونين بار رسالة إلى نتنياهو، حذّره فيها من أن العنف الذي يمارسه المستوطنون المعروفون بـ"شبيبة التلال" يُعتبر إرهاباً، ويشكّل تهديداً للأمن القومي. ومؤكّد أن نتنياهو لن يسمع.
الهجوم الإسرائيلي على الضفة الغربية جرى ربطه بالفلسطيني جعفر منى من نابلس، الذي كان يحمل حزاماً ناسفاً وانفجر لسبب ما قبل وصوله إلى هدفه في تل أبيب في 18 الجاري. وتبنّت "حماس" و"الجهاد الإسلامي" المسؤولية، وهدّدتا إسرائيل بعودة العمليات الانتحارية، رداً على سقوط أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين في الغارات الإسرائيلية على غزة.
وتزامن الهجوم الإسرائيلي على شمال الضفة مع بدء جولة جديدة من المفاوضات "التقنية" في الدوحة، من أجل التوصل إلى وقف للنار في غزة، ما يؤكّد أن نتنياهو لا يزال يعتقد أن ممارسة المزيد من الضغط العسكري في غزة والضفة هو الوسيلة الأفضل لحمل "حماس" على القبول بوقفٍ للنار ينسجم مع مطالبه.
كما أن بقاء الجبهات مشتعلة والتهديد بتوسيع الحرب هما ركيزتا نتنياهو في تحسين صورته أمام الجمهور الإسرائيلي، وتحديداً عندما يعدّد الجبهات التي تقاتل فيها إسرائيل في معركة "وجودية". وليس عبثاً ألّا يصغي نتنياهو لنصائح قادة الجيش، لأنه نجح في تصوير هؤلاء على أنهم السبب في الإخفاق الكبير في 7 تشرين الأول (أكتوبر) أمام هجوم "حماس" على غلاف غزة. وبفتح جبهة الضفة على نطاق واسع، يريد نتنياهو أن يؤكّد أن المبادرة في يده، وأنه يستطيع أن يهاجم "استباقياً" من الضفة إلى لبنان وإلى جبهات أخرى.
ولن يفوّت نتنياهو أيضاً فرصة الحماية الأميركية المتوفرة له الآن، كي يندفع في مقامرات خطيرة من شأنها زعزعة استقرار المنطقة بكاملها، وإرساء معادلات جديدة. أما المفاوضات المتعثرة، فهي منذ اليوم الأول ليست خياراً بالنسبة إليه.