النهار

صداقةٌ من طرف واحد
العنود المهيري
المصدر: النهار العربي
أتخيّل أحياناً لو كنتُ معجبةً مهووسةً بأحد المشاهير في القرن الماضي. أتخيّلني أسبق الجميع إلى شِراء "كاسيتاته"، والمجلات التي يُوضع على أغلفتها.
صداقةٌ من طرف واحد
(تعبيرية)
A+   A-
أتخيّل أحياناً لو كنتُ معجبةً مهووسةً بأحد المشاهير في القرن الماضي. أتخيّلني أسبق الجميع إلى شِراء "كاسيتاته"، والمجلات التي يُوضع على أغلفتها. سأحجز التذاكر متى ما أحيا حفلاً، فأتخيّلني أرابط عند الصفوف الأمامية ليراني، وأرفع لافتةً ضخمة لعلّه يلوّح لي. وربما لو حنّت الأقدار، ألتقط صورة تذكارية معه بعد الحفل. 
 
لكنّني قطعاً كنت سأضجر ذات يوم، وسأشبّ عن طوق الهوس حين أدرك أن أقرب مدى قد أبلغه من النجم سيقتصر على مصافحة عابرة، ثم سينساني كأنّني لم أكن. سأكبر وسأنضج، وسأزيل "البوسترات" عن جدران غرفتي وجدران قلبي سوية.
 
أما لو كنت معجبةً مهووسةً في عصر التواصل الاجتماعي، فكلما سيشارف الهوس في داخلي على الفناء، سيتمّ مدّه بالقليل من الفُتات، ثم القليل أكثر من الفُتات، فيعيش حتى يقتلني. 
 
لنتخيّل معاً أنّني إحدى أولئك المتعصبات اللاتي ينذُرن حسابهن بأكمله لمتابعة مطربة مثلاً، والتفاعل مع كل ما تنشره، وتأييدها في كلّ ما تقوله، وتلقّف أخبارها، والتغنّي بها، واستهلاك ألبوماتها، والترويج لها. سأحرص على أن أكون قريبة منها دائماً، فلست سوى على بُعد شاشة منها، منتظرةً ضغطة سبابتها المباركة. 
 
وبالطبع، سأكون أيضاً محامي دفاع يتصدّى لأي شائعة عنها، أو انتقاد "حاقد". ولأنّني أعرفها، وأفهمها، فسوف أتحدّث بالنيابة عنها في خلافاتها مع زملائها، وسأشرح مواقفها، وسأبرّر تصرفاتها. سأخبركم بما قَصَدَته ولم تقصُده حين تعجزون عن استيعاب عبقريتها، أو مجاراة فكاهتها. 
 
لكن لأنّني إنسان، فقد أتعب في مرحلة ما، خصوصاً إذا تسلّل إليّ الشكّ في أنّ من أتفانى في سبيل نجوميتها لا تُلاحظني، ولن تقلّدني أوسمة التقدير. أتخيّل أنّ اليقين بأنّني سأبقى غير مرئية سوف يُحبطني، وأتخيّل حينها أنّني سأهمّ بإغلاق حسابي، مثلاً، و"اعتزال" نضالي الافتراضي. 
 
وفجأة، قد "تتنزّل" عليّ الرحمة من حيث لا أحتسِب: "لايك" من فنانتي المفضّلة، أو عبارة مجاملة، أو إعادة نشر لمحتواي. قد تشكرني بالاسم، أو تضحك لي، أو حتى عليّ، لا مانع. وربما ببعض الحظ ودعاء الوالدين، ستتابعني.
 
حينها، سأتقهقر من فوري إلى المربّع صفر، متوهّمة من جديد بأنني "قريبة"، وبأن السّراب الذي كنت أنهل منه كان في الواقع ماءً، وإلا لكنت متُّ عطشاً، أليس كذلك؟ ولكن ها هي نجمتي تجاوبني، وتمتدحني، وتثمّن دوري. إنّني حيّة، وحقيقية، مثل صداقتنا. 
 
أليس أخطر عصر للعلاقات الـ parasocial، حيث طرفٌ يهبُ حبَّه ووقته وطاقته لآخر غير مُدركٍ أصلاً لوجوده؟  
 
وأتذكّر تحديداً كيف أدمت قلبي إحدى الفنّانات العربيات حينما قالت إنّ بعض معجبيها في العالم الافتراضي أصبحوا "أصدقاءها".
 
هي تقصد أنها أصبحت تعرف أسماءهم، وأشكالهم، وجنسياتهم، فأصبح لمعجبيها وجوه وهويات، ليس إلّا. لكنّني أتخيّل كيف أن كلمة "أصدقاء" التي ألقت بها جزافاً، وفقط لغياب وصف أدقّ لهؤلاء "الغرباء القريبين"، جرّت المهووسين بها أعمق وأعمق نحو الهاوية، وربما استحالت نجاتهم.
 
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium