بين الكتلة الأوروبية وعمالقة المنصات الاجتماعية والرقمية سوء تفاهمٍ يتراكم منذ سنوات، ويبدو أنه سيتحول إلى صراع في أفق غير بعيد. قبل أيام أرسل المفوض الأوروبي للسوق الداخلية تييري بريتون، رسالةً مفتوحةً إلى مالك شبكة التواصل الاجتماعي "إكس" إيلون ماسك، داعياً إياه فيها إلى ضرورة احترام القانون الأوروبي للخدمات الرقمية، وذكر فيها أنه يشعر بالقلق إزاء خطر تضخيم المحتوى الذي يحتمل أن يكون ضاراً. جاء ذلك قبل ساعات من مقابلة إيلون ماسك مع المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترامب التي بُثت على المنصة. ورداً على ذلك، نشر الملياردير الأميركي، ''ميما'' مهيناً للغاية، لكنه لم يجب عن أي من الأسئلة التي طرحها بريتون.
ورغم أن المفوضية الأوروبية نأت بنفسها عن صراع ماسك – بريتون، بذريعة أن نشر هذه الرسالة جرى من دون التنسيق مع الرئيسة أورسولا فون دير لاين أو موافقة من المفوضية، إلا أن ذلك لا يخفي طبيعة الصراع الجاري بين الاتحاد الأوروبي وعمالقة المنصات الرقمية في العالم. بعد ذلك بأيام، ألقت الشرطة الفرنسية القبض على الملياردير الفرنسي الروسي بافيل دوروف رئيس منصة "تلغرام"، لدى نزوله من الطائرة في مطار لوبورجيه كجزء من التحقيق في عدم الامتثال للقوانين التي تجبر المنصات على التعاون مع الأجهزة الأمنية. ورغم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صرّح بأن هذا التوقيف "ليس قراراً سياسياً بأي حال من الأحوال، وأن الأمر متروك للقضاء"، إلا أن التعاطي الأمني مع دوروف، يمثل جزءاً من صراع الإرادات بين السلطات الأوروبية والمنصات الرقمية. وربما ما جرى مع زميله الروسي سيجعل إيلون ماسك الآن يفكر مرتين قبل أن يهبط بطائرته في فرنسا أو في بروكسل.
تُنظّم هيئة الخدمات الرقمية الأوروبية الوسطاء والمنصات عبر الإنترنت مثل الأسواق والشبكات الاجتماعية ومنصات مشاركة المحتوى ومتاجر التطبيقات ومنصات السفر والإقامة عبر الإنترنت. ويتمثل هدفها الرئيسي في منع الأنشطة غير القانونية والضارة عبر الإنترنت وانتشار المعلومات المضللة. كما تضمن سلامة المستخدم وتحمي الحقوق الأساسية وتخلق بيئة عادلة ومنفتحة للمنصات عبر الإنترنت. وبحسب المفوضية الأوروبية، فإن قانون الخدمات الرقمية يحمي المستهلكين وحقوقهم الأساسية عبر الإنترنت من خلال وضع قواعد واضحة ومتناسبة. كما يعزز الابتكار والنمو والقدرة التنافسية، ويسهل توسيع نطاق المنصات الأصغر حجماً والشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم والشركات الناشئة. وقد دخل هذا القانون حيز التنفيذ اعتباراً من 17 شباط (فبراير) 2024. ويهدف أيضاً إلى ضمان عدم احتكار أي منصة كبيرة عبر الإنترنت تجد نفسها في وضع "حارس البوابة" تجاه عدد كبير من المستخدمين بإساءة استخدام هذا الوضع على حساب الشركات التي ترغب في الوصول إلى هؤلاء المستخدمين. ويضع الأوروبيون معايير لتصنيف هؤلاء العمالقة الرقميين من بينها أن تكون المنصة قد حققت في السنوات الثلاث الماضية، مبيعات سنوية لا تقل عن 7.5 مليارات يورو داخل الاتحاد، أو حصلت على تقييم سوقي لا يقل عن 75 مليار يورو. ويجب أن يكون لديها ما لا يقل عن 45 مليون مستخدم نهائي شهرياً وما لا يقل عن عشرة آلاف مستخدم تجاري موجود في الاتحاد. ومن ناحية أخرى، يجب أن تتحكم المنصة في واحدة أو أكثر من خدمات المنصة الأساسية في ثلاث دول أعضاء على الأقل. وتشمل هذه الخدمات الأسواق ومتاجر التطبيقات ومحركات البحث والشبكات الاجتماعية والخدمات السحابية والخدمات الإعلانية والمساعدين الصوتيين ومتصفحات الويب.
وفضلاً عن منع الاحتكار وحماية المنصات الصغيرة، يفرض القانون الأوروبي الجديد معايير صارمة حول حماية المعطيات الشخصية وترويج الأخبار الزائفة، ويضع قواعد صارمة لاحترام حقوق النشر تعزز موقف الكتاب والموسيقيين والمصورين، في مفاوضاتهم مع المنصات التي تحقق أرباحاً عالية من استخدام محتواهم، إلى جانب ضريبة بنسبة 15% على أرباح الشركات الكبيرة المتعددة الجنسيات، وبخاصة الشركات الرقمية العملاقة التي تحقق أكثر من 750 مليون يورو، بغض النظر عن المكان الذي تحقق فيه هذه الشركات أرباحها. ويتضمن أيضاً أنظمة عقوبات مثل فرض غرامات على هذه المنصات في حالة عدم الامتثال للقواعد، أو حتى الاستبعاد من السوق الأوروبية في حالة تسجيل انتهاكات جسيمة ومتكررة.
في المقابل، ترفض بعض المنصات الكبيرة مثل "إكس"، وبخاصة "تلغرام"، هذه الشروط، وتعتبرها معاديةً لحرية التعبير والنشر. ويبدو أن حقيقة الصراع بين الطرفين، ليست في المقام الأول متعلقةً بحماية المستخدم أو حرية التعبير، بقدر ما هي متعلقة بالسلطة والنفوذ. من جهة تريد الكتلة الأوروبية السيطرة على عمل المنصات، بوصفها مجالاً للنشاط والتجارة والتواصل، وبالتالي تمثل تحدياً أمنياً وجيوسياسياً متصاعداً. وفي الجهة المقابلة لا تريد المنصات التفريط بثروة استخدام البيانات، ولا ترغب في دفع ضرائب عالية، وتسعى إلى نفوذ متزايد ككيانٍ فوق الدولة، يستطيع التحكم في قطاعات بشرية، وتفضيلاتها وأذواقها وميولها السياسية، من خلال الخوارزميات، في الوقت الذي تسعى فيه أيضاً للحفاظ على وجودها في سوق أوروبي يتميز بالاستقرار والقدرة الشرائية العالية، قياساً بأسواق عالمية أخرى.