تحلم إيران بالتحول إلى مركز إقليمي لتصدير الغاز في منطقة الشرق الأوسط، وهذا السبب هو أحد تفسيرات الحروب التي تأكل أراضي العراق وسوريا واليمن، فلطالما تتحدث الجمهورية الإسلامية عن خطط لرفع قدراتها الإنتاجية من الغاز الطبيعي وتصديره إلى الخارج، بخاصة أن لديها ثاني أكبر احتياطي في العالم بعد روسيا.
وتضع إيران نفسها في مقارنة مع تركيا التي تمتلك موقعاً استراتيجياً مطلاً على أوروبا، لكنها لا تملك النفط والغاز مثلها، ولديها مشكلات مع اليونان وقبرص في البحر الأبيض المتوسط، وتستورد الغاز من إيران وروسيا وأذربيجان، ورغم ذلك أصبحت مركزاً للطاقة بسبب موقعها الجيوسياسي وتحولها إلى طريق ومرفأ للنفط والغاز، ما جعل استقرارها جزءاً من أمن أوروبا، ولا تخسر علاقاتها معها رغم التوترات السياسية المستمرة بسبب الحاجة للطاقة.
داخل يأكل الخارج!
لكن واقع الأمر في إيران أنها مكبّلة بالعقوبات الغربية التي صاحبها هروب الاستثمارات الأجنبية، ما جعل حقولها من الغاز غير قادرة على رفع مستوى الإنتاج في ظل عدم تحديث بنيتها التحتية، بالإضافة إلى الاستهلاك الداخلي الذي يتجاوز 800 مليون متر مكعب شتاءً، ما يعطل قدرتها على التصدير، إذ يبلغ إنتاجها مليار متر مكعب من الغاز الحامض يومياً الذي بعد تحليته يصل إلى 850 مليون متر مكعب، إلى جانب هدر أكثر من 20 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز المصاحب بسبب غياب التكنولوجيا الحديثة.
وتستخرج إيران نحو 70% من غازها من حقل بارس الجنوبي (غاز الشمال) المشترك مع قطر، إلا أن جارتها الخليجية تتفوق عليها بسبب امتلاكها تقنيات غربية متطورة ومنصات عملاقة وضواغط كبيرة، وعدد سكان أقل يسمح لها بالتخطيط لتصدير 7 آلاف مليار قدم مكعب من الغاز المسال سنوياً، بينما تواجه إيران مع زيادة الطلب المحلي عجزاً يصل إلى أكثر من 10 مليارات قدم مكعب شتاءً، ما يعطل خطط التصدير إلى دول جوار مثل تركيا والعراق، بل أحياناً تتعطل مصانعها للأسمدة والبتروكيماويات بسبب ارتفاع الاستهلاك المحلي، ما يدفع الحكومة لمواجهة أزمة غلاء في الأسعار وسخط شعبي.
والأمر لا يقتصر على الشتاء، فإيران يتجاوز استهلاكها من الكهرباء صيفاً 78.500 ألف ميغاوات يومياً، وهو ما يرفع من استهلاك محطات الإنتاج للغاز ويدفع الحكومة إلى تطبيق سياسة ترشيد للاستهلاك بقطع الكهرباء، ما يرفع من أسعار المخبوزات والمحاصيل الزراعية ومواد البناء وحديد التسليح وكذلك مستوى البطالة بفعل تعطل القطاع الصناعي. وفي النهاية تفشل أي حكومة إيرانية في تحقيق ما تعهدته من تحقيق للرفاهية ورفع مستوى صادرات الغاز والكهرباء إلى دول الجوار.
فيتو روسي
لا تتوقف القيود على إيران من جانب الولايات المتحدة الأميركية التي تعطل مد خط أنبول للغاز بين إيران وباكستان، بل إن روسيا أيضاً تمارس فيتو على صادرات الغاز الإيراني، إذ تخشى فقدان أسواقها الآسيوية نحو باكستان أو الهند أو الصين.
إيران، على عكس تركيا، تمتلك احتياطياً ضخماً من النفط والغاز، ما يمكن أن يشكل تهديداً لمكانة روسيا في الأسواق الأوروبية أيضاً، إذ ليس من مصلحتها أن تتحول إيران بديلاً لتزويد أوروبا المتعطشة للطاقة. وهو ما يفسر أيضاً التعقيدات التي تضعها روسيا حينما تقترب طهران من اتفاق نووي مع الغرب، فهي تخشى خروجها من أزماتها والتحول إلى منافس لها في إدارة جيوسياسية الطاقة.
وفي إيران، تدور تساؤلات على مستوى الخبراء حول أسباب التأخر في تطوير حقول الغاز الشمالية الواقعة في مياه بحر قزوين، ومنها حقل شالوش، واحد من أكبر حقول الغاز في العالم.
والإجابة دائماً أن هناك "فيتو" روسياً يمنع ذلك. حتى أن الاستثمارات الروسية المنتظرة في الحقول الإيرانية تركز على المناطق الجنوبية لا الشمالية، إذ تسعى موسكو للسيطرة على قطاع الطاقة في إيران، سواء بتحديد وجهة صادراته أم بتحجيم إنتاجه، وذلك من أجل إبطاء صعودها كمنافس إقليمي للطاقة الروسية.
ولا يمكن الادعاء أن طهران تجهل تلك السياسة التي تمارسها موسكو تجاهها، لكنها تقع بين معضلة التنافس مع روسيا بما يُضعف القوى الشرقية لمصلحة نظيرتها الغربية، وبين التزام استراتيجية روسيا التي تقوم على التوجه شرقاً، بما قد يساعد إيران يوماً على استعادة مكانتها الإقليمية التي توازي الرغبة الروسية في التمدد داخل الممر الدولي الجنوبي براً وبحراً (المحيط الهندي، بحر العرب، البحر الأحمر، قناة السويس، البحر المتوسط)، أو ما تسمى استراتيجية الوصول إلى المياه الدافئة.
سياسة المقايضة
لم تجد إيران مفراً من اللجوء إلى سياسة المقايضة من أجل مواجهة سياسة العقوبات الغربية وكذلك القيود الروسية على تمددها نحو الأسواق الغربية أو الشرقية، ولذلك يجب تفسير جهودها لمقايضة الغاز مع دول شمالها مثل تركمانستان وأذربيجان وأرمينيا في إطار هذه السياسة التي تشبه خدعة "تلبيس الطواقي"!
فقد صرح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بعد توقيع اتفاق للغاز مع الرئيس التركمانستاني قربانعلي بردي محمدوف، الأربعاء 28 آب (أغسطس) 2024، بأن هذا الاتفاق هو خطوة استراتيجية لتحويل إيران إلى قطب ومحور إقليمي لتصدير الغاز، بخاصة أن تركمانستان تملك رابع أكبر احتياطي للغاز في العالم.
لكن هل تشكل هذه الدولة التي تقع على مدخل آسيا الوسطى مع إيران تحالفاً ضد النفوذ الروسي؟ بالطبع لا، فإن ما تحصل عليه إيران منها هو في إطار المقايضة مع أذربيجان أو لسد احتياجاتها الداخلية، أو إيصال ذلك الغاز إلى العراق أو باكستان إذا سمحت كل من الولايات المتحدة وكذلك روسيا بذلك.
والمحصلة أن إيران لا يمكنها التحول إلى مركز إقليمي لتصدير الغاز إلا إذا تحررت من العقوبات الغربية، وكذلك أن تشاركها روسيا في ذلك، ولذلك يمكن فهم خطة روسيا لإيصال غازها عبر بحر قزوين إلى موانئ إيران الجنوبية والوصول إلى منصات إسالة الغاز في سلطنة عمان، في إطار خطتها للوصول إلى أوروبا وأسواق آسيا عبر منافذ متنوعة.