خفتت في العراق أصوات المقاومة الإسلامية، التي سبق لها أن توعّدت إسرائيل بردّ صاعق على اغتيال الرئيس السابق لحركة "حماس" إسماعيل هنية، والذي هو بمثابة تكريس لوحدة الساحات المقاومة، في ظلّ تصاعد الحديث عن هروب نور زهير المتهم الرئيس في ما سُمّيت بـ"سرقة القرن"، والذي تزامن مع أربعينية الإمام الحسين، التي استنفرت الدولة كل أجهزتها الأمنية من أجل حماية المشاركين فيها، كما أنها حرصت على الإنفاق على أولئك الزوار بسخاء فيه الكثير من الهدر، بحيث جنّبتهم إنفاق دينار واحد أثناء الزيارة. زيارة مجانية مدفوعة الثمن. لقد تمتع أولئك الزوار بالكرم العراقي، ولم يطرأ في بالهم أن ما أنفقته الحكومة العراقية على راحتهم يفوق ما سرقه نور زهير من الأمانات الضريبية. وبما أن مقاتلي المقاومة الإسلامية لم تحرمهم قياداتهم من المشاركة في الشعائر الحسينية، فقد طُويت صفحة الانتقام من إسرائيل، وهي الصفحة التي اعتبرتها إيران جزءاً من حرب نفسية، لا ترغب في أن تعطيها طابعاً مسلحاً. ما ينبغي أن يكون واضحاً هنا، أن كل ما يتعلق بإسرائيل والشأن الفلسطيني لا يفكر فيه العقل السياسي الراهن في العراق إلّا عن طريق التلقين الإيراني. لقد سبق للميليشيات أن فتكت بالفلسطينيين المقيمين في العراق منذ عام 1948، حين اعتبرتهم من أتباع النظام السابق، وشرّدت الجزء الأكبر منهم ورمتهم في الصحراء. أما حرب غزة واغتيال هنية في طهران فهما للتفكير السياسي السائد هناك، ولا ينتسبان إلى القضية الفلسطينية. ذلك شأن تتحكّم به إيران، فهو جزء من سياستها في المنطقة. وكما أتوقع فإن الحذر الإيراني صبّ ماءً مثلجاً على أعصاب زعماء الميليشيات الذين لا يرغبون في أن يكونوا هدفاً مباشراً لانتقام إسرائيلي أو أميركي مباشر.
مواطنة بامتيازات نخبوية
يفكر انتهازيو السلطة في العراق في زيف أكثر لكي يتسنى لهم الاستيلاء على حقائق الواقع. ما من شيء يهمّهم في ذلك المجال سوى عائدات الثروة النفطية التي وضعها نظام المحاصصة الطائفية والحزبية بين أيديهم. وفي ظل التحشيد الإعلامي الموظف لخدمة أربعينية الإمام الحسين، يمكن أن تضيع الكثير من الحقائق. لقد اختفى الخلاف بين الحكومة والميليشيات حول القوات الأجنبية الموجودة في قواعدها في العراق. في وقت سابق كان المقاومون يتحدثون عن احتلال أميركي يجب إنهاؤه، فيما كانت الحكومة تؤكّد التزامها باتفاقيات توجب بقاء تلك القوات. عاد كل طرف إلى معسكره كما لو أن شيئاً لم يكن. من المؤكّد أن الجزء الأكبر من المشاركين في تلك المسيرات الجنائزية كانوا من الإيرانيين. ذلك ما يتيح لإيران فرصة تسريب عشرات الآلاف من مواطنيها، وجلّهم من منتسبي الحرس الثوري، إلى العراق، ليستقروا فيه ويحصلوا في ما بعد على نوع من المواطنة صار يُطلق عليها (VIP) بحسب التسمية الشعبية المتاحة. وهو ما يتيح لهم التمتع بامتيازات مالية لا يتمتع بها العراقيون الأصليون. في السنوات الثماني التي حكم فيها نوري المالكي العراق ما بين 2006 و2014، صدر الكثير من القوانين التي تتعلّق بإعادة الاعتبار إلى الإيرانيين المهجّرين، ولا تزال تلك القوانين سارية المفعول ويمكن استعمالها لمصلحة أي إيراني، بغض النظر عن صلته بالعراق. ولو أن الخميني نهض من قبره لكان مواطناً عراقياً مميزاً. تناست إيران هي الأخرى مسألة الانتقام لاغتيال هنية الذي لم يكن مواطناً إيرانياً، من أجل أن توطّن مواطنيها في العراق.
المتاهة العراقية في خدمة إيران
ما كان للحكومة العراقية أن تغالي في متابعتها لعملية فساد مثلما فعلته مع نور زهير، لولا وجود أجندات سياسية، الجزء الأكبر منها كان إيرانياً. لقد حدثت السرقة في الوقت الذي كان مصطفى الكاظمي رئيساً للحكومة العراقية. وهو بالنسبة إلى إيران وأتباعها رجل أميركا في العراق. من وجهة نظري لا يستحق الرجل ذلك اللقب. هو أكبر منه. غير أن اضطرار إيران للقبول به رئيساً للحكومة من أجل إنهاء الانتفاضة التشرينية كان بمثابة انقطاع لسيطرتها على القرار السياسي في العراق. وليس من المستبعد أن تكون حكومة محمد شياع السوداني، التي ما أن انتهت من فضيحة وزارة الدفاع في الابتزاز السياسي على أساس الأشرطة الجنسية، حتى اندلعت في وجهها فضيحة ابتزاز جديدة ومن النوع نفسه، لكنها وقعت هذه المرّة في مكتب رئيس الوزراء نفسه، قد ثأرت لنفسها من خلال المغالاة في الإنفاق على المواكب الحسينية، وفي الوقت نفسه أعادت تسليط الأضواء على سرقة القرن وبطلها نور زهير الذي اختفى في لبنان ولم يحضر محاكمته التي لا يعرف أحد أخبارها. أما كيف تكون إيران مستفيدة من تلك المتاهة، فذلك مصدره أن إيران تسابق الزمن في العراق قبل إجراء الانتخابات التشريعية فيه نهاية هذا العام، والتي قد يفوز بها مرّة أخرى التيار الصدري والمتحالفون معه، إذا ما قرّر مقتدى الصدر خوضها. تسعى إيران إلى خلخلة الواقع السياسي، بحيث تتساوى المطالب الخدمية مع محاولة الحكومة الكشف عن فضائح الفساد التي تحوط بها.
الإفلات من العقاب هو القاعدة
لم يكن مهمّاً ما قاله نور زهير في لقاء تلفزيوني قبل اختفائه، وليس مهمّاً بالنسبة إلى العراقيين، وقد اعتادوا على السرقات المليارية، أن يعرفوا أن أربعينية الإمام الحسين كلّفت 3 مليارات دولار. ما يشغلهم سؤال حائر هو "لِمَ لا يستقيل رئيس الحكومة وقد تبين أن مكتبه يضمّ شبكة للابتزاز، مادتها أشرطة وتسجيلات جنسية؟". ذلك ما يحدث في العراق فقط. لقد مرّت آلاف الفضائح عبر العشرين سنة الماضية ولم تهتز الحكومات، بل أن أبطال تلك الفضائح نجوا بما كسبوه، وهم يعيشون آمنين في أوطانهم البديلة. القضاء في العراق معطل، كما أن المحكمة الاتحادية لا تتحرّك إلّا بإيعاز من الأحزاب الحاكمة. لو أن فضيحة شبيهة حدثت في أي دولة من دول العالم الثالث لاستقال رئيس الحكومة. أما في العراق فكل شيء يمرّ. كما لو أن الحياة السياسية هي مجموعة متلاحقة من الفضائح. ولهذا صار الإفلات من العقاب هو القاعدة. أما هيئة النزاهة فإن قوائمها تظل حبراً على ورق، ولا يتحرك القضاء إلّا في إطار ملاحقة الحلقات الأضعف فيها، والتي لا تضمّ إلّا أصغر اللصوص ممَن لا يملكون سنداً حزبياً أو طائفياً أو عشائرياً.