عندما أصرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عام 2022 على تمرير التعديلات القضائية التي تحدّ من صلاحيات المحكمة العليا، شكّل تدخّل اتحاد نقابات العمال الإسرائيلي "الهستدروت"، الرافض لهذه التعديلات، علامةً فارقة في حمل أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرّفاً في تاريخ إسرائيل على التراجع عن بعض هذه التعديلات، والعودة عن قرار إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت لمعارضته التعديلات.
اليوم، يختلف الوضع عمّا كان عليه في عام 2022. فإسرائيل في حالة حرب، ومعظم المجتمع الإسرائيلي يؤيّد نتنياهو في القضاء الكامل على "حماس"، وفي الهجوم على الضفة الغربية، وفي شنّ حرب واسعة على لبنان. إنها الورقة الوجودية التي تمكّن نتنياهو من غرسها في المجتمع الإسرائيلي منذ وصوله إلى السلطة قبل 15 عاماً، والتي عمّقها في الأشهر الـ11 الأخيرة.
في الأشهر الأولى التي تلت إخفاق إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) أمام هجوم "حماس"، هوت شعبية نتنياهو وحزبه الليكود إلى مستويات قياسية. لكنّ نتنياهو اعتمد أسلوب إطالة أمد الحرب والمماطلة في الموافقة على وقف للنار وإنجاز صفقة لتبادل الأسرى، وتمكّن دعائياً من تدعيم موقفه وتحسين شعبيته. ولم يؤثّر خروج رئيس حزب الوحدة الوطني بيني غانتس من مجلس الحرب كثيراً في فرط الائتلاف الحاكم، الذي يعتمد على دعم وزير الأمن الداخلي إيتامار بن غفير، ووزير المال بتسلئيل سموتريتش زعيم حزب "الصهيونية الدينية".
اتخذت نقابة "الهستدروت" قرار الإضراب التحذيري ليوم واحد، تحت صدمة العثور على 6 جثث لأسرى إسرائيليين في نفق برفح الأحد، ما يُشير إلى أن النقابة قرّرت الانضمام إلى الضغوط التي يُمارسها أهالي الأسرى، والتي تراجعت بمرور الوقت. فهل يحقّق الإضراب الغرض منه، ويعمد نتنياهو إلى إزالة آخر العقبات من أمام التوصل إلى اتفاق يوقف الحرب، على غرار ما حدث قبل عامين في ملف التعديلات القضائية؟
امتصّ نتنياهو حتى الآن كل الضغوط التي مارسها أهالي الأسرى والمعارضة وغالانت ومعه المؤسسة العسكرية للموافقة على وقف النار. وعلى الرغم من أن الجيش يقول إن الحرب في غزة استنفدت أهدافها، وتعتقد أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية أن "حماس" تلقّت ضربة قوية، بحيث لم تعد قادرة على تشكيل تهديد أمني لإسرائيل في المستقبل المنظور، فإن نتنياهو يتصلّب ويرفض المضي في إنجاز صفقة التبادل، ويضع اللوم في كل مرّة على الحركة، ويؤكّد أنّ لا مفرّ من مواصلة الحرب حتى تحقيق "النصر الكامل".
عقب قرار "الهستدروت"، نزل أكثر من 300 ألف متظاهر إلى شوارع تل أبيب، معيدين الحياة إلى حركة المطالبة بالتوصل إلى اتفاق لوقف النار والتبادل.
لجأ نتنياهو في مرّات سابقة إلى المناورة من أجل تعطيل إبرام اتفاق في اللحظات الأخيرة، على الرغم من ضغط الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يريد وقف الحرب قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، حتى تتمكّن المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس من استعادة ثقة التقدميين والعرب الأميركيين في الولايات المتأرجحة، والذين انفضوا عن الحزب الديموقراطي بسبب التأييد المطلق الذي أظهره بايدن للحرب. وأمام الزخم الذي استعاده التحرك الإسرائيلي الداخلي بعد قرار "الهستدروت"، فمن غير المستبعد أن يُظهر نتنياهو ليونةً شكلية لاحتواء العاصفة، قبل أن يعمد إلى خطوة تُعيد الأمور إلى الوراء، بتصعيدٍ ما في غزة أو في الضفة أو في اتجاه لبنان أو إيران.
إن الورقة الوجودية التي يلعب بها نتنياهو منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) جاهزة لتحريكها في مواجهة الضغوط التي يواجهها لإبرام اتفاق لا يريده، حتى يبقى في السلطة. والخوف الآن من إقدام نتنياهو على قرار يُعيد فيه خلط الأوراق، بما يضمن له البقاء السياسي، وعدم سقوط الحكومة. التجارب تدلّ منذ 11 شهراً إلى أن نتنياهو يهرب دائماً إلى الأمام.