عين الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم السابع من آب (أغسطس) رئيساً جديداً للحكومة، هو الخامس منذ توليه السلطة عام 2019.
تداول على البلاد خلال الثلاثة عشر عاماً التي تلت سقوط نظام بن علي سنة 2011 ما لا يقل عن اثني عشر رئيس حكومة بين سياسيين وتكنوقراط.
ارتفع نسق تغيير رؤساء الحكومات (أو الوزراء الأول) بعد 2011. فخلال فترة حكمه التي امتدت 23 عاماً عين بن علي ثلاثة وزراء أول فقط، فيما شهدت الفترة بين استقلال البلاد وإزاحة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة عن السلطة (سنة 1987) تعيين سبعة وزراء أول. وبورقيبة نفسه لم يعين إلا خمسة من هؤلاء، رغم أنه أمسك بمقاليد الحكم حوالي ثلاثين عاماً.
من الأكيد أن تغيير رؤساء الحكومات وتواتر التعديلات الحكومية خلال الأعوام الأخيرة لم يساعد على إضفاء مسحة من الاستقرار على أوضاع البلاد، ولم يساعد الوزراء تحديداً على استنباط الخطط التنموية اللازمة ومتابعة إنجازها، بخاصة أن الكثير من هذه الخطط مصادق عليها وخصصت لها الاعتمادات الكافية لكنها لم تجد أبداً طريقها إلى التنفيذ.
اختلفت أسباب تعدد التعيينات. بعد 2011 وحتى سنة 2021، كان عدم استقرار الحكومات انعكاساً للتقلبات السياسية والضغوط الحزبية وتداخل عاملي الولاءات والمحاصصة مع التعيينات. وفاقم حالة عدم الاستقرار فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتنازع بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة على الصلاحيات.
وبنهاية تلك المنظومة سنة 2012 (بعدما حل سعيد البرلمان وإمساكه بمعظم السلطات التنفيذية) انتهى دور البرلمان والأحزاب في اختيار رؤساء الحكومات ووزرائهم، وأصبح التعيين يتم مباشرة من رئيس الجمهورية، وأضحت وظيفة رئيس الحكومة، بحسب الدستور الجديد، تتمثل في "مساعدة" رئيس الجمهورية على أداء مهماته.
ورغم كل الاختلافات التاريخية الجوهرية، فقد عادت البلاد مع سعيد إلى مربع ما قبل 2011 عندما كان اختيار الوزير الأول يتم من رئيس الجمهورية الذي يتولى أيضاً تشكيل الحكومة وتعديلها. تطابق هذا التغيير مع ميل أغلبية الرأي العام التونسي إلى نظام الحكم الرئاسي.
ولكن، رغم التحولات السياسية والدستورية، تكررت تغييرات رؤساء الحكومات والتشكيلات الوزارية، وذلك نتيجة ما يبدو أنه عدم رضا سعيد على أداء هذه الحكومات ومدى تطبيقها سياساته، وبخاصة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، هذا بالإضافة إلى بحثه عن تجانس أفضل بين أفرادها.
منذ 2011 كان لأداء الحكومات، بخاصة إزاء المصاعب الاقتصادية والاجتماعية المتواصلة، انعكاس على مصداقيتها وعلى مستوى ثقة الجمهور الواسع بها.
وقد أظهر استطلاع لـ"البارومتر العربي" في بداية هذا العام أن مستوى ثقة الرأي العام بالحكومات انحدر من 62 في المئة سنة 2011 إلى 20 في المئة سنة 2019. ثم عاد للتحسن بعد 2021 ولكنه لم يتجاوز 36 في المئة سنة 2023 فيما لم تنزل الثقة برئيس الجمهورية في هذه السنة عن 77 في المئة.
ومع تعاظم دور الرئيس تقلص دور رؤساء الحكومة وقل ظهورهم الإعلامي كما هي حال بقية الوزراء. لكن بقيت هناك مع ذلك رواسب في المخيال الجماعي تجعل التونسي يميل نحو المبالغة في التوقعات بخصوص قدرة الوزير على التغيير والتأثير، رغم أن هامش المبادرة لدى أعضاء الحكومة يبقى مرتبطاً بما يحدده صاحب القرار الفعلي - وهو حالياً رئيس الجمهورية - وما يحدده من سياسات.
بالمقارنة، فإن استمرار الحكومات لفترات طويلة إبان حكمي بورقيبة وبن علي ترك لرؤساء هذه الحكومات وأعضائها الذين كان من بينهم العديد من السياسيين البارزين، مجالاً لوضع بصماتهم على الخطط التنموية وأحياناً لتحديد الخيارات الكبرى للبلاد. ومن جملة الأمثلة على ذلك التجربة الاشتراكية (الفاشلة) التي أطلقها وزير الاقتصاد أحمد بن صالح خلال حكم بورقيبة أو مشروع إصلاح التعليم الذي وضعه وزير التربية محمد الشرفي، وكذلك برنامج التصرف في الموارد المائية الذي أشرف عليه عضو الحكومة عامر الحرشاني خلال فترة حكم بن علي. لكن سعي الوزراء للبروز، في ظل نظامي بورقيبة وبن علي، كان يثير أحياناً حفيظة رئيس الدولة ويعجّل بالتعديلات الحكومية.
لا ينتظر المواطن اليوم من الوزير ورئيس حكومته مواقف سياسية، بل مقاربات ناجعة لمنع تدهور ظروفه الاقتصادية بتوفير الشغل والضغط على الأسعار وتحسين الأجور وتطوير مستوى الخدمات في مجالات مثل الصحة والنقل والتعليم وتوفير الموارد المائية والكهرباء.
وكل رئيس حكومة جديد في تونس يعرف جيداً هذه الأولويات، وهو على دراية بأن الجمهور الواسع سوف يتابع أداءه ويوجه الانتقادات إلى ما يراه من إخلالات، وذلك بتحريض من سعيد نفسه الذي يصر في كل مناسبة على التنديد بتردي الخدمات العامة إلى حد اتهام المسؤولين عنها بـ"التنكيل" بالمواطنين.
يتساءل البعض في تونس عن الفائدة من تعيين رئيس حكومة جديد واختيار تشكيلة وزارية جديدة قبل أسابيع فقط من الانتخابات الرئاسية. ولكن أصحاب هذا الرأي يغفلون عن أن الميزة الأكبر من أي تغيير حكومي هي الصدمة الوقتية التي يخلقها القطع مع الوضع القائم، بخاصة إذا كان غير مرضي، والإيحاء بأن المرحلة القادمة ستكون بالضرورة أفضل. والتغيير الأخير الذي أدخله سعيد على رأس الحكومة وعلى تركيبة أعضائها ليس استثناءً في هذا المجال.
ولكن أغلبية التونسيين يعوّلون — كما كانوا دوماً في ظل أي نظام— على رئيس الجمهورية، وليس على رئيس الحكومة وفريقه الوزاري، من أجل إيجاد الحلول التي تخرج بلادهم من أزماتها.