كنت أقف على قارعة الطريق حينما سمعت صبياً يشير إلى النافذة الخلفية المعتمة لمركبة "ميني فان" يقول لصاحبه: "كأنها شاشة!". صدمني التعليق لسبب بسيط، وهو كيف وردت إلى ذهن ذلك اليافع "الشاشة" فقط دون غيرها؟! فالتفت إليه بابتسامه وقلت: معقولة الشاشة تلاحقك في كل مكان؟ أتحب ألعاب الفيديو؟ فقال بفرحة غمرت عينيه: "نعم!".
تمطرنا الأبحاث ووسائل الإعلام بوابل من النصائح عن خطورة "التسمّر" أمام الشاشات لساعات طويلة، لكن هذه المرّة جاءنا تحذير جديد من أكثر البلدان تقدّماً وازدهاراً، إذ دعت هيئة الصحة العامة السويدية أولياء الأمور إلى منع أطفالهم دون سن السنتين من التعرّض للشاشات، ومنح من هم بين السنتين والخمس سنوات ساعة واحدة يومياً كحدّ أقصى، وساعتين لمن هم بين السادسة والثانية عشرة. أما المراهقون بين 13 و16 عاماً فيُنصح بأن يتعرّضوا للشاشات في ما لا يتجاوز ساعتين إلى ثلاث ساعات على أكثر تقدير، وذلك خارج أوقات الدراسة، بحسب صحيفة "الشرق الأوسط".
هذه المعضلة برزت بعد أن تبيّن أن المراهقين يحدّقون بالشاشات لنحو 6.5 ساعات يومياً (خارج أوقات الدراسة)! ولذلك تدرس الحكومة جدّياً حظر الهواتف الذكية في المدارس الابتدائية.
الإفراط في مشاهدة الشاشات، لا يؤذي الأطفال فحسب، بل يلاحقنا أذاه جميعاً. فقد اكتشف العلماء أنه يرقق القشرة الدماغية المسؤولة عن الذاكرة واتخاذ القرار وحل المشكلات. ويؤثر كذلك على الدماغ، ما يجعل من الصعب على الشباب التحكّم في سلوكياتهم الاندفاعية بحسب دراسة تحليلية شمولية Meta-analysis بعنوان "تحليل إدمان الهواتف لدى المراهقين في الهند" ونُشرت في دورية IJPM عام 2014.
وتبين أن الإفراط في مشاهدة الشاشات يؤثر على الصحة النفسية عبر الإصابة بالاكتئاب، والقلق، والتدهور المعرفي. كما يقلّل من مقدرة الدماغ على "الراحة"، الأمر الذي يلقي بظلاله على مستويات التركيز والتعلم والاستيعاب، بحسب دراسة بعنوان "التعرّض للضوء المسائي من شاشات الحواسيب يعطّل النوم البشري، الإيقاعات البيولوجية، وقدرات الانتباه (2017)".
قبل الأجهزة الجوّالة لم تكن أيدينا ولا رقابنا تعاني من مشقة، إلّا أن انتشارها كشف للعلماء في بحثهم المنشور في دورية IAMHA أن الفترات الطويلة للمشاهدة ولّدت آلاماً حديثة مزمنة في الرقبة وأعلى الظهر أُطلق على بعضها "الرقبة النصية"، وعلى آخر "إبهام الرسائل النصية"، فضلاً عن متلازمة النفق الرسغي نتيجة تدهور حالة أوتار اليدين والمعصمين وعضلاتها، بحسب دراسة نُشرت عام 2021 في الدورية الدولية للصحة النفسية والإدمان.
ولأن المسألة أصبحت أشبه بالإدمان، أضحت الشاشة تلاحقنا إلى مخدعنا، فتؤخّر إفراز الميلاتونين، ما ينتقص من جودة النوم ويؤدي إلى صعوبته. في السابق كنا أفضل حالاً لأننا ننتظر فقرة عزف السلام الوطني أو إشارة توقف البث، لنخلد جميعاً إلى نوم عميق.
صحيحٌ أن الهاتف جلب إبداعات البشرية بضغطة زر، لكنه أسهم بتوليد عزلة اجتماعية. فقد اشتهرت بلدان جنوب أميركا اللاتينية بالمسلسلات المطولة (تيلينوفيلا) التي تجتمع فيها الأسرة دورياً لمشاهدتها. فغابت هذه بعد ظهور "أجهزة العزلة" كالمنصات الحديثة وتطبيقاتها الهاتفية.
في حقبة الستينات، كان هناك تقليد شهير في أميركا يُدعى "عشاء التلفاز"، حيث تُباع وجبات مجمّدة جاهزة تُعرف بـ "TV dinners"لم تكن عزلة بل لقاء اجتماعي يؤنسه التلفاز.
ما زالت الشاشة من مصادر المتعة والمعلومة، لكنها عودت الناس على الكسل ونفاد الصبر، عند البحث عن المعرفة الحقيقية بين دفتي الكتب.