التظاهرات تجتاح المدن الإسرائيلية إذاً على خلفية مقتل الرهائن الست، واستلام جثثهم، وعدد المتظاهرين يُقدّر بـ700 ألف، وهو مرعبٌ بالنظر إلى أن التعداد السكاني الإجمالي لإسرائيل 9,9 ملايين نسمة.
لكن، قبل أن نردّد "الله يزيد ويبارك"، ونستبشر خيراً بأن تُفلح التظاهرات في مطالبها بإبرام صفقة لتبادل الأسرى مع "حماس"، لتنتهي بذلك مأساة أهلنا في غزة، يجب ألّا نغفل عن السردية الخبيثة التي تخلقها هذه الصور والمقاطع القادمة من شوارع تل أبيب والقدس وغيرها، وتروّج لها، خصوصاً في الوعي الجماعي المغيّب عمداً في الغرب.
فهذه التظاهرات ستعزز فكرة خطيرة إن لم نتصدَّ لها بحزم، ومفادها أن ثمة "محتلاً شريراً"، وهو الذي يقصف المستشفيات، ويؤدي إلى تفحّم جثث الأطفال، ويغتصب الأسيرات، وثمة "محتل طيب" يستغل الديموقراطية المتوفرة لديه، وحرّية التعبير، وحرّية التظاهر، لينادي برحيل حكومة بنيامين نتنياهو، وبوقف إطلاق النار، وبالتالي بوضع حدّ للإبادة والتطهير العرقي.
لكن الحقيقة المرّة، هي أن اليميني إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، والذي هدّد صراحة بهدم المسجد الأقصى، لا يختلف من حيث المبدأ عن الشابة الإسرائيلية الليبرالية النباتية، ذات الشعر الأزرق والقرط المتدلي من الأنف، والتي "تحزنها" العنصرية تجاه العرب، و"تكره" الحرب، و"تستاء" من ابتزاز المثليين الفلسطينيين لتحويلهم إلى مخبرين.
الحقيقة المرّة – واسمحوا لي باقتباس شعار التظاهرات اللبنانية في عام 2019 - هي أن "كلّن يعني كلّن".
جميعهم محتلون، وغالباً من نسل محتلين، ينتفعون مباشرة من المشروع الصهيوني، ويرفلون في نعيم امتيازاته. ربما كان أجدادهم وآباؤهم من وضع الطوبة الأولى لحياتهم هذه فوق أنقاض حياة الفلسطينيين القتلى والمشرّدين والمهمّشين، ولكن لأنهم اختاروا المكوث في إسرائيل، فمن الواضح بأنهم مستمرون في تعمير تلك "الحياة الجميلة" بغضّ النظر عن الثمن.
والحقيقة الأمرّ، التي يجب أن نخبر بها السذّج ومفرطي التفاؤل، خصوصاً في الشارع الغربي، هي أن "كلّن" – حتى أشدّهم يسارية وطنطنة حول الحقوق والحرّيات - لا يريدون العودة سوى إلى ما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بيوم واحد.
يريدون العودة إلى حياتهم الهانئة اللطيفة في ناطحات سحاب بيني براك، وفي الـ"كيبوتس" الوادعة، وعلى شواطئ إيلات، حينما لم يكن يشغل تفكيرهم، أو يقلق ضمائرهم، أكبر سجن مفتوح في الكوكب: غزة. إنهم يريدون العودة إلى حياة ما قبل أي شعور بالذنب، أو قلق، أو خوف، أو انعدام أمن، أو صدام مع الموت، أو فضيحة على المستوى العالمي، إلى الماضي القريب الذي لم يكن أحد يجرؤ فيه على انتقاد الصهيونية.
"كلّن" لا يبحثون سوى عن مصالحهم، وراحتهم، واستعادة وضعهم الطبيعي. يحدّقون بهلع في لوحة التحكّم بحثاً عن زر "الإلغاء"، لكن فقط حتى 6 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، فكل ما جرى من أهوال قبله، بما في ذلك العذابات اليومية الممنهجة للفلسطينيين، لا تعني هؤلاء "المحتلين الطيبين".