في مذكراته، كتب لورنس العرب "إن شعوب الشرق الأوسط تستيقظ، والخطوط التعسفية التي ترسمها القوى البعيدة، لن تحتويها إلى الأبد. ستصل نيران إحباطهم إلى أولئك الذين سعوا للسيطرة عليهم".
على مدى عقود سبعة، كان الرؤساء الأميركيون يعدون الناخبين والسياسيين بأنهم سيغادرون لعنة الشرق الأوسط، وسيتركونه لجحيمه. ثم، ومرّة بعد مرّة، لا يلبث الشرق الأوسط أن يجرّهم من أنفهم إلى أتونه. وليس أدلّ إلى ذلك من الشعار المركزي لحملة بوش الابن "الخروج من الشرق الأوسط" والتوجّه نحو الصين وبناء التحالفات معها في الباسيفيك. ولم تمض 9 أشهر على وصوله للمكتب البيضاوي حتى كان الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). ونرى الآن ذات الأمر بالتأكيد. وفي كل مرّة، لا يلبث ذاك الجني الشرق أوسطي أن يقفز من قمقمه، ليقول لكل رئيس بدوره، انتظر لحظة، لم ننتهِ بعد! ويجرّه من أنفه إلى وحول الشرق الأوسط.
حين جاء جو بايدن إلى السلطة، قيل له إن عليه التركيز على التحدّيات الماثلة من روسيا والصين. أما الشرق الأوسط فهو عقدة العقد. لا تحاول حلّها، ويكفي أن تدير ظهرك للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي وتهتم بمزيد من اتفاقيات التطبيع.
وكذا فعل بايدن!
وبالرغم من مخاطر التحدّيات في أوكرانيا وبحر الصين، ها هي نواة السياسة الخارجية الديبلوماسية والاستخبارية تنخرط حتى شوشتها في الشرق الأوسط، لتسجّل واحدة من أهم لحظات الفشل الديبلوماسي الأميركي في تاريخ ما بعد الحرب الباردة.
هذه المرّة، خلافاً لسيرة كل الرؤساء السابقين، ستدخل الرئيسة الجديدة أو الرئيس الجديد إلى غرفة العمليات في البيت الأبيض وخرائط إسرائيل وفلسطين وإيران، بل وكل مدينة في الشرق الأوسط، تملأ شاشات تقدير الموقف، فلأسباب عدة، يعتقد الباحثون أن النزاع الراهن في الإقليم سيطول! خصوصاً بعد هذا الاحتدام والنضج والتشابك مع الملفات الدولية الأخرى.
والأنكى أن السيرة لم تعد سيرة "حماس" ولا "حزب الله"، بل يعكف الخبراء على تقارير تشرح للرئيس الجديد رهانات واستثمارات كل من إيران وروسيا والصين في استمرار الصراع وتعميق البئر العميق الذي أوقعت القيادة الأميركية نفسها فيه، حيث لم يعد ثمة خلاف على أن هذا الصراع ليس إلّا جزءاً من الصراع العالمي ضدّ روسيا وإيران، ثم الصين لاحقاً.
قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2024، تفاقم العديد من الصراعات الإقليمية، لكنها بقيت منتشرة وغير مترابطة. بعده، تقاطعت التحالفات الدولية ونشأت مخاطر حقيقية وشيكة، تنبئ باحتمال أن يتحول الشرق الأوسط إلى مكسر عصا للصراع الدولي.
وبالرغم من مركزية الصراع في أوكرانيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن جبهة الشرق الأوسط أثبتت أنها، المرّة تلو المرّة، حلقة رئيسية في الصراع الراهن تتفاعل مع باقي الأزمات مثل الأواني المستطرقة.
في إقليمنا، بلغ السيل الزبى، ولم يعد بإمكان أي طرف، حتى لو أراد، العودة لما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر). فكل طرف يحتاج إلى نصر كي يستعيد ردعه. ولم يعد ممكناً للولايات المتحدة ذاتها استعادة استقرار مصالحها ومبادراتها الاستراتيجية من دون تبديل السياق الاستراتيجي ضدّ إيران وأذرعها.
ما الخيارات المتاحة للرئيس الجديد؟
حتى الآن، تذكر العسكرية الأميركية بألم تجربتها الحاد في أفغانستان، والدرس هو أنك كي تتمكن من "تطفيش" الولايات المتحدة، لا تحتاج إلى جيش عرمرم، ولا ترسانة استراتيجية معقّدة، فما أن تقوم أميركا برمي كرة الحرب في الملعب، فلن يكون بالإمكان أن تعرف في أي مرمي ستنتهي اللعبة. وفي أفغانستان، انتهت في المرمى الأميركي.
يفهم بايدن وهاريس أن روح العصر في أميركا ترفض بقوة الذهاب إلى أي حرب ليس فيها مخاطر مباشرة على الوطن الأميركي.
وبالرغم من أن دونالد ترامب يثير الكثير من الضجيج، فإن جوهر موقفه لا يختلف كثيراً. لكن الأهم هو حال الانقسام في الحزب الجمهوري. فثمة كتلة MAGA المحيطة تقليدياً بترامب، والتي تركّز على العداء للصين وإيران، وتميل إلى تحييد روسيا، وإضعاف التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها.
لكن ثمة كتلة "الريغانية الحديثة" الصاعدة، وهي تعمل على إحياء التقاليد العسكرية الوطنية للجمهوريين. تضمّ هذه الكتلة بعضاً من أهم النخب الاستراتيجية والاقتصادية التي تناهض أجندة الحزب الديموقراطي، وتنظر إلى ترامب كجسرٍ ملائم لتنفيذها. وتعتقد هذه الكتلة أن هزيمة روسيا هي الحلقة الرئيسية الآن، من أجل تحجيم الصين وإيران وضمان انكفائهما.
قام أخيراً عدد من كبار الخبراء بتقديم إيجازات إلى أعضاء الكونغرس الجمهوريين، بهدف توضيح أهمية هزيمة روسيا والتأثير في موقفها. وسمح هذا الجهد بتعديل مواقفهم من دعم أوكرانيا.
تعرف الكتلة "الريغانية" الكثير من عيوب ترامب، لكنها تراهن على سطحية أجندته وخواء خبرته، لتذهب نحو المزيد من التشدّد ضدّ روسيا وصولاً إلى إجبارها، من موقع القوة، على التفاوض لحلّ الأزمة الأوكرانية، فترامب أشبه بمصارع كمال الأجسام الذي يتباهى بعضلاته، لكنه من دون شك حذر جداً من التورّط في الصراع العسكري. وأوضح مثال على ذلك أنه أمر، بعد مقتل قاسم سليماني، بسلسلة من الضربات على إيران ليسحبها في اللحظة الأخيرة.
يعود الحديث في واشنطن عن ضرورة الخروج من هذا الانخراط الأميركي المفرط والمكلف في الشرق الأوسط، فإضافة إلى ما يكلفه من جهود ديبلوماسية هائلة، فإنه يشكّل نقطة ضعف كبيرة في سياسة الولايات المتحدة، ويقصم ظهر قدراتها على المبادرات الاستراتيجية الضرورية لتطوير موقفها الدولي في مواجهة خصومها.
وخلاصة ما يراه الباحثون، هو أنّ هذا الصراع يُضعف الولايات المتحدة بشكل لا لبس فيه، ويشلّ تحالفاتها وقدرتها الاستراتيجية. والأهم أن هزيمة أجندة الولايات المتحدة في الإقليم تنعكس حتماً بشكل سلبي على موازين القوى في كل ساحات المجابهة مع الصين وروسيا.
في نهاية المطاف، سيكون الشرق الأوسط في محور اهتمام الساكن الجديد للبيت الأبيض، إذ لا مجال إلّا للعمل على تغيير السياق الاستراتيجي وإنهاء حال الضعف الأميركية، ووضع الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على طريق الحلّ.
بعدها، تصبح أذرع إيران في الإقليم هي الحلقة الرئيسية التي من دون كسرها لن تتمكن الولايات المتحدة من استعادة زمام المبادرة ضدّ خصومها الدوليين في الإقليم وما حوله. وسيكون الإشكال الجوهري لكل من المرشحَين للرئاسة الأميركية هو: كيف يمكن إضعاف أذرع إيران جوهرياً من دون الدخول في حرب مباشرة مع إيران؟
صارت السياسات المفترضة لأي من المرشحَين قريبة جداً بعضها من بعض، وبالطبع سيخرجها كل منهما على طريقته.