النهار

تركيا بوّابة بين آسيا وأوروبا... أذربيجان تُكمِل اللّعبة
يوسف بدر
المصدر: النهار العربي
لا تزال حكومة باكو الأذربيجانية تفكر في احتلال جنوب محافظة سيونيك الأرمينية المحاذية للحدود الإيرانية الشمالية من أجل فتح ممر زنگزور (Zangezur)، وبذلك تضمن الوصول إلى إقليمها المنفصل عنها جغرافياً (ناخيتشيفان) المحاذي للحدود التركية، ما يضع منطقة جنوب القوقاز أمام مسرح مفتوح من التحولات الجيوسياسية والجيواقتصادية، الى جانب احتمالات الحرب.
تركيا بوّابة بين آسيا وأوروبا... أذربيجان تُكمِل اللّعبة
مشهد جوي لبناء طرق وسكك حديدية في أذربيجان من المقرر ربطها بممر زنگزور (رويترز)
A+   A-

ما يحدث في منطقة جنوب القوقاز (أذربيجان وأرمينيا وجورجيا) التي هي ضمن جغرافية الشرق الأوسط الكبير، نموذجٌ مصغر لما يحدث في عالمنا أيضاً، إذ كانت المساجد في تركيا السُنية العلمانية ترفع الدعاء من أجل نصرة أذربيجان الشيعية العلمانية في حربها ضد أرمينيا المسيحية من أجل تحرير مرتفعات ناغورني كاراباخ، بينما الهدف كان قومياً يتعلق بإجراء تحولات في الجغرافيا السياسية والاقتصادية لمستقبل ما بعد الطاقة الأحفورية.

 

الدموع التي ذرفها المؤمنون الحالمون بمقام الشهداء كانت في خدمة مصالح أكبر من الإسلام الذي لا يؤمن به الكثيرون في كل من تركيا وأذربيجان، فتحرير الأرض لم يكن نهاية الصراع وبداية السلام بين أذربيجان وأرمينيا، بل لا تزال الأولى من أجل تحقيق أهدافها القومية، وبإسناد من قوى مثل تركيا وأوروبا وروسيا والصين، تطمح لأن تعيد رسم خريطة حدودها مع جارتها أرمينيا من أجل أهداف مستقبلية تضعها على خريطة التفاعلات الاقتصادية بما يعزز مكانتها لدى القوى الدولية.

 

لذلك لا تزال حكومة باكو تفكر في احتلال جنوب محافظة سيونيك الأرمينية المحاذية للحدود الإيرانية الشمالية من أجل فتح ممر زنگزور (Zangezur)، وبذلك تضمن الوصول إلى إقليمها المنفصل عنها جغرافياً (ناخيتشيفان) المحاذي للحدود التركية، ما يضع منطقة جنوب القوقاز أمام مسرح مفتوح من التحولات الجيوسياسية والجيواقتصادية، إلى جانب احتمالات الحرب وفتح الباب أمام مراجعة اتفاقيات تاريخية مثل معاهدة تركمانجاي بين إيران القاجارية وروسيا القيصرية (10 شباط/ فبراير 1828).

تطلع أذربيجاني

وتستعد العاصمة باكو لاستضافة مؤتمر المناخ العالمي "كوب 29" في الفترة بين 11 و24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، وسط تحديات مناخية قاسية بسبب عدم التزام الدول الصناعية والمنتجة للطاقة بتعهداتها منذ مؤتمر باريس عام 2015، ما يعني أن أذربيجان التي تمثل الطاقة 90% من صادراتها، وكذلك نصف دخلها وثلث ناتجها المحلي، لا تراهن عليها من أجل بناء تنميتها المستقبلية، فهي تدرك أن الطاقة الأحفورية إلى نضوب. لكنها تراهن على فتح ممرات للتجارة والنقل تربطها بتركيا التي تمثل قنطرة اتصال بين الشرق والغرب لنقل الطاقة وحركة التجارة الدولية.

ومع ذلك لا يمكن إغفال استمرار أهمية الطاقة في تعزيز إنشاء الممرات التجارية، فموقع أذربيجان ضمن أكبر الدول المصدرة للنفط والغاز، يعزز من أهمية إكمالها "لعبة البازل" التي تجعل أراضي دول جنوب القوقاز مُكمِلة لبوابة تركيا المطلة على أوروبا.

نحو الشّرق

واستفادت أذربيجان من طاقتها لسنوات كرافعة في علاقاتها الخارجية مع الغرب، كما حصلت على السلاح من إسرائيل في مقابل صادرات النفط وتكنولوجيا الغاز. لكن عينها الآن على منظمتين اقتصاديتين ناشئتين في الشرق، هما شنغهاي وبريكس، لذلك تقدمت بطلب رسمي للانضمام إلى مجموعة بريكس+، المقرر عقد قمتها المقبلة في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، في ضيافة مدينة قازان في تتارستان الروسية. وهو ما يفسر الغزل المتبادل بين أذربيجان وروسيا خلال هذه الأيام.

كذلك، بدأت أذربيجان المقربة من الغرب، هذه الأيام تهتم بالدخول في شراكة استراتيجية مع الصين على مستويات عدة، وتسعى إلى أن تكلل ذلك بمظلة عضويتها في منظمة شنغهاي، لذلك طلبت أن تغير وضعها في تلك المنظمة من صفة "شريك حوار" إلى "مراقب".

 

بذلك تضمن أذربيجان استمرار أهمية موقعها على ساحل بحر قزوين كنقطة اتصال لربط حركة التجارة عبر "الممر الأوسط"، من الصين إلى دول آسيا الوسطى إلى أراضيها في جنوب القوقاز إلى تركيا ثم أوروبا، سواء وصولاً عبر جورجيا إلى تركيا، أم عبر ممر زنكزور وصولاً إلى إقليم ناخيتشيفان.

 

كما تضمن لها حدودها المباشرة مع روسيا، أن تتحول أراضيها إلى جزء مهم ضمن ممر شمال-جنوب، الذي مهمته ربط تجارة الخليج والمحيط الهندي مع روسيا الاتحادية وأوروبا الشرقية.

قوى محيطة

وتحذو تركيا الخطوات نفسها التي قامت بها أذربيجان بالتطلع نحو شنغهاي وبريكس، لأن ذلك يمنحها رافعة ضغط على الاتحاد الأوروبي الذي يتردد في منحها العضوية، فانضمام تركيا التي هي عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، إلى منظمة أوراسية ليس بالأمر السهل على الدول الأوروبية.

 

لكن هدف تركيا ليس الانتصار لمصلحة التيار الأوراسي على التيار الأطلسي داخلها، بل للموازنة بين الشرق والغرب، فهي تريد أن تستفيد من اتفاقياتها الجمركية مع الاتحاد الأوروبي بحيث تتحول إلى بوابة مهمة لنقل حركة التجارة بين المجموعتين الاقتصاديتين (شنغهاي وبريكس) والغرب.

وبالنسبة إلى روسيا، فإن عودتها إلى الاهتمام بمنطقة جنوب القوقاز تزامنت مع تصاعد وتيرة حربها ضد القوى الغربية في أوكرانيا، فزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أذربيجان، الاثنين 19 آب (أغسطس) 2024، جاءت بعد اتفاقيات لتصدير الغاز الأذربيجاني إلى أوكرانيا وأوروبا، ما يعني أن موسكو عادت إلى الاهتمام بفنائها الخلفي من أجل استمرار وصايتها على إدارة الطاقة والممرات نحو أوروبا.

 

تلك المنطقة الجنوبية هي ملاذها للخروج من عزلة العقوبات الغربية، فهي بالنسبة إلى روسيا تمثل الممر الجديد لتجارتها نحو الهند والخليج والشرق الأوسط وأوروبا. ولذلك تحافظ على وجود قواتها كضمانة للأمن هناك. وكذلك تدعم تكتيكياً خطة كل من أذربيجان وتركيا لفتح ممر زنكزور، في إطار تقويض دور جورجيا الحليفة للغرب كمركز إقليمي للنقل يربط التجارة الواصلة إلى جنوب القوقاز بتركيا. وكذلك للحفاظ على وضع طهران تحت ضغط مستمر، بما يؤمّن استمرار علاقتها مع موسكو.

كذلك بالنسبة إلى الصين الواقعة في أقصى الشرق، فهي تهتم بالاستثمار داخل الدول الواقعة على الممرات الدولية، ومنها أذربيجان وتركيا. ولذلك هي ترحب بالممرات التجارية التي تدعم مشروعها "الحزام والطريق" الذي يهدف إلى ربط تجارتها بمحيطها الخارجي وصولاً إلى الغرب، فالممر الأوسط تعززت مكانته لديها في ظل الأضرار التي لحقت بالممر الشمالي (الصين، روسيا، أوروبا) بسبب الحرب في أوكرانيا، وكذلك الأمر مع الممر الجنوبي (المحيط الهندي، البحر الأحمر، البحر المتوسط) بسبب الحرب في غزة.

وبالنسبة إلى إيران الأمر مختلف، فقد فقدت أراضيها في القوقاز وبحر قزوين خلال الحروب الفارسية الروسية، وفتحُ ممر زنكزور خسارة جديدة لها، بعد عزلها عن أرمينيا، وتهديد لمصالحها الاقتصادية والأمنية ومكانتها الجيوسياسية في الشمال التي ترتبط بالجنوب أيضاً. ولذلك هي تراهن على مخاوف أرمينيا من تعاظم التهديدات الطورانية على أمنها القومي وعزلها جغرافياً، في تشكيل موقف معارض قوي ضد طموحات أذربيجان التي تسعى لتطوير موقعها على الطريق بين الشرق والغرب.

اقرأ في النهار Premium