يمضي رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في محاولته التقرب من أوروبا متردداً على طريقة "خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء"، فلا هو يصل إلى غايته المعلنة ولا هو يكف عن ادعاء الحرص على بلوغها. وفيما تتسابق تداعيات الطلاق بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي في إلحاق الخسائر بالأولى، يعود رئيس الوزراء الفرنسي المعين ميشال بارنييه، خصم البريكست العنيد، إلى الصف الأول. ويشعر أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالقلق لرؤية الدبلوماسي الجسور والمجتهد الذي كثيراً ما هزمهم حين قاد فريق الاتحاد الأوروبي في مفاوضات البريكست. لكن لا يزال من السابق لأوانه التكهن بما إذا كانت أعباؤه ستسمح له الآن باستئناف معركته ضد البريكست.
"هناك بالتأكيد خطأ ما في النظام البريطاني... كل يوم يمر يُظهر أنهم لم يدركوا [جسامة] عواقب ما هو على المحك هنا". هذا ما قاله بارنييه، الملقب بـ"السيد بريكست"، في 2021، بعدما قضى سنوات في التباحث مع لندن بشأن خروجها من الاتحاد.
وفي أعقاب ثلاثة أعوام، تثبت الوقائع اليوم صدق قراءته تلك للمستقبل. ففي أوائل أيلول (سبتمبر) الجاري، أعلنت بريطانيا أنها ستؤجل مرة سادسة تفعيل ضوابط الرقابة الصحية على الأغذية والمنتجات الزراعية الواردة من الاتحاد الأوروبي، والمنصوص عنها في اتفاقية البريكست التي دخلت حيز التنفيذ في 31 كانون الأول (ديسمبر) 2020. والواضح أن صانعي البريكست لم يتخيلوا خسائر تقدر بمئات ملايين الجنيهات الإسترلينية ستلحقها هذه الضوابط بالاقتصاد البريطاني، ولا صعوبة تطبيقها.
لقد حذّر بارنييه مراراً من تداعيات البريكست واعتبر أنه "من الجنون أن دولة عظيمة كالمملكة المتحدة تفاوض على انسحابها من الاتحاد الأوروبي من دون أن تتمتع برؤية واضحة لكيفية التعامل مع نتائجه". وعمل باجتهاد فتغلب على المفاوضين البريطانيين المتعصبين للبريكست. إلا أن نجاحه بتحقيق أجندته في نهاية المطاف، جاء مراً مرارة العلقم، بسبب إيمانه العميق بالمشروع الأوروبي الذي وجه إليه البريكستيون ضربة قوية. وهو لم يخفِ يوماً تشجيعه مزيداً من التعاون بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
في هذه الأثناء، أبدى زعيم حزب "الإصلاح" نايجل فاراج، كبير الشعبويين البريطانيين، استياءه لكون بارنييه صار في صدارة المشهد الأوروبي من جديد. واعتبر أنه سيدفع باتجاه تقريب وجهات النظر بين لندن وبريكست. وقال إن "وجود متعصب للاتحاد الأوروبي في منصب رئيس وزراء فرنسا سيكون، للأسف، مناسباً لحكومة حزب العمال" التي تسعى في رأيه إلى ارتكاب "خيانة" بحق البريكست الذي ساهم في تسويقه. أما جاكوب ريس موغ، وهو وزير محافظ سابق معروف بميوله اليمينية البريكستية، فرأى أن المسؤول الفرنسي "ليس صديقاً للمملكة المتحدة". لكنه أردف موضحاً أنه سياسي كفوء.
ربما كان توجس هؤلاء في مكانه. بارنييه يعرف النظام البريطاني أكثر من أصحابه، وهو يتفانى في خدمة أوروبا. وعليه، ليس هناك من هو أجدر منه وأقدر على تحفيز ستارمر وتطمينه كي يتخلص من تردده وغموضه بشأن الاتحاد الأوروبي. فقد أكد رئيس الوزراء البريطاني رغبته في العمل من أجل "إعادة ضبط العلاقات" مع بروكسل مراراً. بيد أن الجميع ينتظر مزيداً من التفاصيل حول كيفية ترجمة هذه الرغبة إلى واقع ملموس.
وهو أفصح عن هذا الطموح بعيد فوزه في انتخابات 4 تموز (يوليو) الماضي مرات عدة. وشدد عليه مجدداً في نهاية الأسبوع الماضي من دبلن التي زارها استكمالاً لجولة أوروبية قادته قبل أيام إلى برلين وباريس. إلا أنه أغفل مرة أخرى التطرق إلى سبل معالجة تداعيات البريكست وغيره من مخلفات المحافظين. وهذا يثير التساؤلات في عواصم أوروبية، ذلك أن تعبيره عن رغبته هذه يترافق مع نفيه مرة تلو مرة وجود نية لديه بإعادة بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي أو السوق الموحدة أو الاتحاد الجمركي، في المدى المنظور.
ولقد رفض للتو عرضاً أوروبياً لإطلاق برنامج معني بتسهيل تنقل الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً بين دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وذلك للعمل، أو العيش، أو الدراسة، أو الزيارة على مدى أربع سنوات. وفوجئ الاتحاد برفض لندن السريع والقاطع لمشروع كان من شأنه أن يساهم في توثيق عرى التعاون التي يزعم ستارمر أنه يعمل على تحقيقها!
والواقع أن الاتحاد الأوروبي يرحب بالدفء الذي ضخته حكومة العمال في العلاقات التي كاد الصقيع يقتلها خلال العقد الماضي. وهو يتفهم حرص الزعيم البريطاني على إعادة التفاوض بشأن بعض عناصر اتفاقية البريكست وسعيه لتعميق التنسيق بينهما أولاً في ميادين الأمن والدفاع، وثانياً، بخصوص العلاقات التجارية وتقليص عمليات الاختبار والتفتيش لضمان التزام المواد الغذائية بأنواعها معايير الاتحاد. بيد أنه يخشى أن تكون عازمة على انتقاء ما يناسبها فقط.
وبالإضافة إلى برنامج تنقل الشباب الذي لم تباركه للتو، لم تطبق بريطانيا اتفاقية البريكست بالكامل. وتعرب دول أوروبية عن قلقها حيال المعاملة التي يلقاها مواطنوها المقيمون في بريطانيا قبل خروجها من الاتحاد ولم يعد يُسمح لكثير منهم بالبقاء. كما أنها تريد النظر في حصص الصيد في المياه الإقليمية البريطانية، وهو أمر كان ولا يزال إشكالياً.
بارنييه دعا إلى توقيع اتفاقية أمنية ودفاعية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي أوائل العام الحالي، أي أنه دعم أحد الأهداف المهمة التي يسعى ستارمر لتحقيقها، حتى قبل أن يصل الأخير إلى "10 دوانينغ ستريت". وسيحظى رئيس الوزراء البريطاني بتأييد نظيره الفرنسي إذا وضع رؤية واضحة لكيفية تحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والتزم تنفيذ بنود الاتفاقيات السارية. فهل يمكن أن يفوّت المحارب العتيق فرصة جديدة للفتك بالبريكست عدوه اللدود، إذا سمحت له بذلك همومه المحلية المتراكمة؟