إذا بحثت عن أسباب التوتر بين مصر وإسرائيل، فعليك أن تراجع تاريخ العلاقة بين الطرفين منذ توقيع اتفاق السلام بينهما قبل أكثر من أربعة عقود، لتدرك أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كانت دائماً حريصة على عدم استفزاز القاهرة، وعلى تفادي الأزمات معها، وتجاوز كل مشكلة قد تحدث على الحدود، وأن تظلّ الانطباعات عن العلاقات إيجابية حتى وإن احتفظ كلا الطرفين بتحفظاته أو قل حذره من الطرف الآخر.
لكن رئيس الحكومة الحالية بنيامين نتنياهو، الذي تعرّض قبل عملية "طوفان الأقصى" لمصاعب وتحدّيات داخلية كادت تطيحه من موقعه، وجد في الحرب على الفلسطينيين في قطاع غزة والاعتداءات عليهم في الضفة الغربية، مجالاً ليحتفظ بحظوظه في البقاء على رأس الحكم. وفي سبيل ذلك الهدف، لم يعد يكترث لغضب المجتمع الدولي أو الاحتجاجات التي تفجّرت في أنحاء العالم جراء المجازر التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي ضدّ الفلسطينيين، ولم يهتم بالإحراج الذي تعرّض له حلفاؤه الغربيون وإساءته لتراثهم الحضاري، وتحدّى كل طرف سعى إلى تخفيف وطأة الحرب على الفلسطينيين واصطدم، بمنتهى الصلف، بمؤسسات دولية، وأوقف أنشطتها الإنسانية، فما بالك بمصر التي ضربت خططه وتصدّت لما كان يؤسس له منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، حيث أفشلت مصر مخطط تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، واتخذت منذ بداية الحرب مواقف صارمة وحادة ضدّ الأفكار والخطط الإسرائيلية التي استهدفت تفريغ قطاع غزة من الفلسطينيين، وتصدّت لضغوط غربية وأميركية تماهت مع الرغبة الإسرائيلية تحت تأثير الصدمة من عملية "طوفان الأقصى"، فأفضت سياسات نتنياهو وجرائمه إلى صدام مع مصر التي وجدت نفسها في مواقف احتكاك ومحكات متتالية مع الإسرائيليين، بحكم حدودها الدولية مع القطاع ودورها الوطني الذي حرصت على المضي فيه، محاولةً تخفيف وطأة الحرب على الفلسطينيين، وواجبها في تدبير المساعدات وإدخالها إلى الفلسطينيين عبر معبر رفح، رغم التعنّت الإسرائيلي والتطاول الذي مارسه تجاهها قادة "حماس" وحلفاؤهم.
وكما فشل الأميركيون في كبح جماح رئيس الحكومة الإسرائيلية بتحقيق وقف، ولو موقّت، لإطلاق النار، أو إنجاز صفقة تبادل الرهائن، حتى الآن، فشلوا أيضاً في الحفاظ على حماسة نتنياهو لتفادي أي تهديد لاتفاق السلام مع مصر، والحرص على عدم إدخال مصر في أزمة مع إسرائيل، ما أفضى إلى الحالة التي صارت عليها الأوضاع الآن، إذ صارت مصر طرفاً في المفاوضات مع إسرائيل، وتجاوزت دور الوسيط بعدما احتل الجيش الإسرائيلي محور صلاح الدين (فيلادلفيا) بما يخالف اتفاق السلام، ويجعل القيادة المصرية تصعّد من لهجة الاعتراض على سلوك نتنياهو وقراراته، إلى حدّ الهجوم المباشر عليه، والتحذير من أن استمراره في موقعه يعني مزيداً من الأزمات والمشاكل والاحتكاكات التي قد تتطور إلى مرحلة يجد فيها الأميركيون أنفسهم أمام خطر يهدّد اتفاق السلام الذي جرى برعايتهم، وصمد أكثر من أربعة عقود.
بالنسبة إلى الأميركيين، يبدو أن القاهرة لا تعول على قدراتهم في الضغط على نتنياهو، سواء في ملف المفاوضات أو أزمة محور فيلادلفيا. فعلى مدى سنوات، دارت تساؤلات مصرية حول موقف الإدارات الأميركية المتعاقبة من إيران و"الإخوان المسلمين"، حتى بدا كأنهم لا يؤيّدون مذهباً دينياً بعينه، لكنهم يختارون دائماً الوقوف مع طرف سياسي يساعدهم في تنفيذ خطواتهم لمستقبل المنطقة. وظلّ خبراء مصريون يرصدون فترة طويلة هذه المسألة، وتوصلوا إلى أن التناقض المفترض بين "الإخوان" (السنّة) والإيرانيين (الشيعة) لم يفرض مواقف متباينة من جانب الأميركيين تجاه التنظيم الإخواني أو الدولة الإيرانية، بل كاد السلوك الأميركي يبدو داعماً لإيران و"الإخوان"، بغضّ النظر عن التصريحات الأميركية وكلام المسؤولين الأميركيين في هذا الشأن، علماً أن مصر والعرب عموماً، ظلوا ينظرون إلى الوقائع على الأرض سنوات طويلة، ويؤكّدون أنها أثبتت أن الجماعة وتلك الدولة يمثلان أكبر تهديد لأمن واستقرار المنطقة العربية، التي تدفع بعض دولها الآن ثمن نجاتها من مؤامرات حيكت وسياسات مورست وأفعال ارتكبت أدّت إلى تقسيم دول أخرى وتفتيت مجتمعات وتشتيت شعوب.
عموماً، العودة إلى تاريخ الصراعات في المنطقة تكشف أن السياسات الأميركية أدّت، على مدى سنوات، إلى أضرار بالغة بدول عربية، أغلبيتها إن لم تكن متحالفة مع الأميركيين فهي بكل تأكيد لا تعاديهم. وتكفي هنا الإشارة إلى الملف النووي لإيران، وأيضاً إلى سياسات الإدارات الأميركية لسنوات مع "الإخوان" الذين لم يكن يمرّ شهر من دون أن يجول عدد من قادتهم بين أروقة الخارجية الأميركية، فتعرف إلى أي مدى جرى الإضرار بدول الخليج عموماً والسعودية خصوصاً، وكيف ساهم الأميركيون في الإبقاء على أمل زائف لدى "الإخوان" في العودة إلى الحكم، وبالتالي استمرارهم في ممارسة تصرفات تهدف إلى هدم الدولة المصرية على من فيها، وهو الهدف الذي استغلّت فيه إيران أيضاً حركة "حماس" لدعم التنظيمات الإرهابية في سيناء.
تدرك القاهرة أن نتنياهو ليس حريصاً على استقرار السلام مع مصر بقدر حرصه على موقعه، وأنه يسعى إلى استثمار المذابح والأهوال التي واجهها الفلسطينيون باعتبارها إنجازات شخصية حقّقها بالبقاء في محور فيلادلفيا وتفريغ شمال القطاع، وفي الوقت نفسه تسخين جبهة الضفة الغربية لتنفيذ ما فشل فيه في غزة بمحاولة دفع الفلسطينيين في الضفة إلى الرحيل في اتجاه الأردن. وتدرك أيضاً أن غضب نتنياهو من المواقف المصرية اتسق مع مواقف تنظيم "الإخوان" الإرهابي الذي يعتقد أنه يستنزف القيادة المصرية عبر منصاته والقنوات المتحالفة معه والدول التي تدعمه، وعلى رأسها إيران، والجهات التي تحترمه وبينها وسائل إعلام ومراكز بحثية وحقوقية أميركية، وكلها سعت على مدى سنوات إلى إسقاط الجيش المصري تلبية لنداء ثأر بعد استجابة الجيش لثورة الشعب على حكم الجماعة.
صحيحٌ أن شراسة التنظيم وعنف عناصره وحرائقهم التي طغت على السطح بعد إبعادهم عن السلطة اختفت، وهم الذين تذوقوا حلاوة الحكم واعتقدوا أنهم سينطلقون من مصر ليحكموا باقي الدول العربية وتحقيق حلم البنا بسيطرة الجماعة على الأرض وتمكين التنظيم. وفي أدبيات الجماعة وكتبها ودروس مرشديها وقادتها، ما يؤكّد قناعتهم بأن الجيش حائط صدّ يحول دون تحقيق أطماع الجماعة في الحكم، علماً أن ذلك التنظيم الإرهابي ظلّ يستغل اتفاق السلام مع إسرائيل للانتقاص من الحكم والجيش والشعب المصري، على الرغم من أن حكام مصر المتعاقبين لم يمنعوا أبداً القطاعات الشعبية ووسائل الإعلام على مدى عقود من التعبير عن مواقفها، ولم يتجاوب المصريون مع دعاوى التطبيع وظلوا يفضحون ممارسات الدولة العبرية، ما كان سبباً رئيسياً للحفاظ على توهج القضية الفلسطينية وإبقائها في بؤرة الضوء، من خلال التعبير عن الغضب تجاه الممارسات الأميركية والإسرائيلية ورفضها، بل والهجوم، وبكل قسوة، على ممارسي التطبيع أو المحرّضين عليه أو الساعين نحوه.