بدأ الناس في تونس هذه الأيام يهجرون الشواطئ بعدما أشرف فصل الصيف على الانتهاء. لكن طائفة من التونسيين بقيت في أغلبها محرومة من ارتياد الشواطئ. هؤلاء هم حاملو الإعاقة أو أصحاب الاحتياجات الخاصة، وبخاصة منهم الأشخاص غير القادرين على التنقل من دون كرسي متحرك، فالشواطئ غير مهيأة لاستقبال هذا النوع من المصطافين.
المشكلة أعم. فمن الصعب جداً على هؤلاء السير على أرصفة الشوارع أو استعمال وسائل النقل والمرافق العامة.
أما الذين يعانون إعاقة سمعية أو بصرية فليس بإمكانهم التعويل على وسائل إرشاد صوتية أو حسية أو على مترجم بلغة الإشارة.
في ظل هذه الوضع لا يمكن لأحد الزعم أن أفراد هذه الفئة مواطنون لهم حقوق الآخرين نفسها.
وليس هناك مثال أكثر وضوحاً من العوائق التي يمكن أن تمنع ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يريدون التصويت في الانتخابات الرئاسية المقبلة من الوصول إلى مكاتب الاقتراع.
وبمناسبة الانتخابات المحلية التي أجريت في بداية هذا العام، عرضت المنظمة التونسية للدفاع عن الأشخاص حاملي الإعاقة ملاحظاتها بخصوص ظروف تصويت الناخبين الحاملين لإعاقات جسدية، ذكرت فيها أن 42 في المئة من أرصفة الشوارع المحيطة بمكاتب الاقتراع غير مهيأة لتنقل الأشخاص بواسطة الكراسي المتحركة.
تختلف التقديرات بشأن عدد أصحاب الاحتياجات الخاصة في تونس بحسب التعريف المعتمد للإعاقة. وتقول بعض السجلات الحكومية إن نسبتهم لا تتجاوز 2,2 في المئة من السكان.
لكن بعض الهيئات الدولية تقول إن النسبة في تونس تفوق 13 في المئة، أي أنهم أكثر من مليون شخص. وهذا أقرب إلى المعدلات العالمية التي تقول إن 15 في المئة من سكان العالم يحملون إعاقة ما.
حالات الإعاقة أكثر انتشاراً مما توحي به بعض الأرقام. أنواعها ودرجاتها متعددة. بعضها وراثي والآخر ناتج من الحوادث أو تتسبب فيه الأمراض والشيخوخة. وثمة إعاقات عضوية وأخرى نفسية لا يحس بها إلا صاحبها.
أهمية الأرقام تكمن في كونها يمكن أن تقنع الدولة والمجتمع بأهمية العناية بذوي الحاجات الخاصة وتخصيص الاعتمادات الكافية لذلك.
لكن المشكلة في تونس أن العناية بأصحاب الاحتياجات الخاصة تلخصت لدى الكثيرين في إصدار "بطاقات إعاقة" يتمتع هؤلاء بمقتضاها بمجانية النقل والعلاج. نتيجة التهميش أصبح الفقر والبطالة ملازمين لمن يعاني إعاقة، إذ غابت السياسات الرامية إلى مساعدة ذوي الحاجات الخاصة على تحقيق استقلاليتهم الاقتصادية والاندماج في المجتمع.
يقول الدستور إن الدولة تحمي "الأشخاص ذوي الإعاقة من كل تمييز وتتّخذ كل التدابير التي تضمن لهم الاندماج الكامل في المجتمع". والقوانين التي تضمن تلك الحقوق كثيرة ولكن تطبيقها شيء آخر.
لا يمكن للقوانين وحدها أن تغير العقليات السائدة أو تنمي وعياً مجتمعياً لم ينضج بعد رغم ما تبذله منظمات المجتمع المدني من جهود لمعاضدة الدولة.
لا يزال الكثيرون يتصرفون وكأنما العناية بأصحاب الحاجات الخاصة ومعاملتهم على قدم المساواة مع الآخرين ترف لا يمكن للمجتمع والدولة أن يتحملاه، بخاصة زمن الأزمات.
البعض يتساءل لماذا يجب ضمان الشغل لأصحاب الاحتياجات الخاصة فيما نسبة البطالة مرتفعة في كامل المجتمع؟
وكيف يمكن تمتيع الطفل حامل الإعاقة بحقه في الدراسة قبل غيره من التلاميذ الذين يواجهون عقبات كأداء لمجرد الوصول إلى المدارس في بعض المناطق؟
مثل هذه التساؤلات هي بمثابة دعوات إلى الإحباط. وهي تذكرني بكلام ينسب إلى أحد رؤساء حكومات تونس السابقين بعد الاستقلال. أجاب السياسي الراحل عن سؤال بشأن تشغيل أصحاب الإعاقة بالقول: "لم نوفق في تشغيل من هم في صحة جيدة فكيف لنا أن نوفر الشغل لأصحاب الإعاقة؟".
لا يمكن أن تبرر الأزمات إهمال أصحاب الاحتياجات الخاصة. هؤلاء يشكلون الحلقة الأضعف في دورة الحياة والإنتاج، لذا قد يكونون الأجدر بالدعم والمساندة في أي مجتمع متضامن.
يشمل ذلك الشغل، إذ ينص القانون على تخصيص نسبة 2 في المئة من فرص العمل في القطاعين العام والخاص لأصحاب الاحتياجات الخاصة. ولكن لا أحد يعرف مدى تطبيق هذا النص القانوني.
تبلغ نسبة العاطلين من العمل بين أصحاب الاحتياجات الخاصة، بحسب الأرقام الرسمية، حوالي 40 في المئة. ومن المحتمل أن تكون أعلى.
يقول الخبراء إن أحد الجوانب الأساسية التي تحدد الإعاقة هي درجة اعتماد صاحبها على نفسه في حياته اليومية. ويعني ذلك بالأساس تمتعه بالحق في الشغل. وهذا الجانب يتحكم فيه المجتمع بما يبديه من تفهم أو بالعكس بما يستمر فيه من أشكال التمييز والأفكار المسبقة والعراقيل التي تمنع ذوي الحاجات الخاصة من العمل والاندماج.
أكيد أن تعليم الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة يتضمن تكاليف مرتفعة مقارنة بتعليم التلاميذ والطلبة العاديين. فهناك حاجة إلى كوادر متخصصة وتجهيزات وتكنولوجيات ملائمة. ولكن ذلك الجهد ضروري حتى يوفر للطفل مهما كانت إعاقته أفضل الحظوظ للإفلات من براثن الفقر والتهميش.
لا يكفي أن يحتفي الجميع بالأبطال الباراولمبيين التونسيين وهم يجنون الميداليات الذهبية في ألعاب باريس أو أن تخصص لهم مقاعد في بعض المجالس المنتخبة.
هذه المبادرات مهما كانت رمزيتها فهي محدودة التأثير على أوضاع أصحاب الحاجات الخاصة. قد تكون بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة ولا يمكن أن تعوض السياسات التي يحتاجها ذوو الحاجات الخاصة كي يكونوا حقاً مواطنين كاملي الحقوق.