بدأت تبرز إلى السطح مؤخراً معلومات عن تفاهم عراقي - أميركي أولي بخصوص سحب كامل لما تبقى من القوات الأميركية من العراق، البالغ عددها نحو 2500 عسكري. حسب هذه المعلومات من مصادر أميركية وعراقية مختلفة لم تفصح عن هويتها، لكن أكدها في مقابلة تلفزيونية وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي، سينتهي هذا الانسحاب في ايلول (سبتمبر) 2026 عبر مرحلتين زمنيتين. الأولى انسحاب هذه القوات من الجزء الغربي من العراق، تحديداً قاعدة عين الأسد في الأنبار، في 2025، ثم يليها انسحابها من مناطق إقليم كردستان، في أربيل، خصوصاً قاعد حرير، في 2026.
تفاصيل هذا الجدول الزمني ليست مهمة، بل المهم هو وجوده وإعلانه، وتالياً الالتزام بتنفيذه. في عراقٍ الإنجاز فيه شحيح ومعاييره متدنية جداً، بإزاء فشل مستدام، شائع ومُهيمن، يمكن أن يُعد هذا الجدول إنجازاً سياسياً لحكومة محمد شياع السوداني، لجهة قدرتها على غلق أحد أكبر الملفات الخلافية ومصادر الابتزاز السياسي في ظل إصرار الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران والمُتَمَثلة، على نحو رسمي وغير رسمي، في الإطار التنسيقي الحاكم، الكتلة البرلمانية الشيعية، على اعتبار وجود القوات الأميركية التي جاءت بدعوة رسمية من الحكومة العراقية في عام 2014 احتلالاً أجنبياً يتطلب انهاؤه مقاومة مسلحة. اشترطت هذه الفصائل لدعمها تشكيل حكومة السوداني في تشرين الأول (أكتوبر) 2022 جدولاً زمنياً واضحاً لسحب هذه القوات، وهو الاشتراط الذي قبله السوداني، واعداً بالحصول على الجدولة المطلوبة. كان التصريح التلفزيوني للعباسي، الذي ينتظر إعلاناً رسمياً من الطرفين، الإشارة الصريحة الأولى الى أن السوداني أوفى بوعده.
لم يحتوِ المنهاج الحكومي الذي صادق عليه البرلمان حين تشكيل الحكومة التزاماً بهذا الخصوص، بل أقصى ما أشار إليه (الفقرة ٢١، النقطة الأولى) هو تفاوض مع أميركا وتقييم لوجود قواتها، من دون تسمية الإثنين صراحةً، في سياق لغة مرنة ليس فيها التزام واضح أو راسخ بخصوص انسحاب هذه القوات: "مواصلة الحوار مع دول التحالف الدولي بشأن تواجد القوات الدولية في العراق وفقاً لما تحدده الحاجة ومتطلبات ديمومة الأمن والاستقرار، وهذا يُحدد من خلال تقديرات الأجهزة الأمنية ضمن رؤية مهنية وبما يحفظ سيادة العراق ووحدته". لم تمنع هذه اللغة المرنة، المقصود منها منح الحكومة حيزاً للمناورة تستخدمه بحسب الظروف، من المضي في تحقيق الوعد الذي قطعه رئيس الوزراء لهذه الفصائل، وهو الوعد الذي تأجل بسبب اندلاع حرب غزة ورفض الولايات المتحدة جدولة الانسحاب في سياق استهداف الفصائل المسلحة لها في ظل هذه الحرب، كي لا تبدو هذه الجدولة إذعاناً أميركياً لضغوط الفصائل وانتصاراً معنوياً لإيران.
تحوّل وجود القوات الأميركية في البلد إلى مشكلة سياسية عراقية لأسباب غير عراقية، بل بأخرى تتعلق بالمصالح والحاجات الإيرانية غالباً، على الأخص تلك المرتبطة بالصراع الإيراني - الأميركي. في أيار (مايو) 2018، أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة رسمياً من الاتفاق النووي الذي توصلت له مع إيران في 2015. بعدها بأشهر، في آب (أغسطس)، أعاد ترامب فرض العقوبات الأميركية على إيران التي نَصَّ الاتفاق النووي على إنهائها، ثم في في تشرين الثاني (نوفمبر)، أي بعد ثلاثة أشهر، فرضَ عقوبات جديدة على الجمهورية الإسلامية في إطار ما أصبح يُعرف بحملة الضغط الأقصى التي تضمنت عقوبات تصاعدية وغير مسبوقة بينها منع إيران من استخدام النظام المالي العالمي. في الشهر التالي، في الأيام الأخيرة من عام 2018، قام ترامب برحلة إشكالية للعراق تصرف فيها على نحو استفزازي، عندما زار قاعدة الأسد العراقية حيث تتمركز معظم القوات الأميركية، من دون أن يزور بغداد العاصمة او يُعلمَ الطرف العراقي بالرحلة مقدماً، بل طلب من رئيس الوزراء العراقي حينها، عادل عبد المهدي، المجيء للقاعدة العسكرية للقائه فيها، وهو الطلب الذي رفض عبد المهدي، على نحو صائب، تلبيته. في خطابه في القاعدة، ذكر ترامب أن قوات بلاده ستنسحب من سوريا، فيما أكد على بقائها في العراق "لحماية المصالح الأميركية والمراقبة عن كثب لأي احتمالات لإعادة تشكيل داعش، وأيضاً لمراقبة إيران... سنراقب".
كانت الإشارة إلى مراقبة أميركا لإيران من العراق، وهي واقعة تحت عقوبات شديدة، مدعاة قلق إيراني وفصائلي. بعد الزيارة السريعة مباشرةً، بدأت الفصائل المسلحة بالمطالبة بانسحاب القوات الأميركية من خلال الأدوات المؤسساتية أولاً، البرلمانية أو الحكومية. غادرت الفصائل هذا الخطاب المؤسساتي سريعاً، في خلال أشهر، في صيف 2019، عندما تعرضت مواقع لبعض الفصائل المسلحة لعمليات قصف غامضة اتهمت هي فيه الولايات المتحدة، لكن على الأغلب كان القصف اسرائيلياً بعد تلقي هذه الفصائل أسلحة إيرانية صاروخية متطورة يمكن أن تشكل تهديداً لإسرائيل. منذ عمليات القصف تلك، انتقلت الفصائل إلى خطاب "المقاومة" وشن عمليات مسلحة لإجبار القوات الأميركية على الانسحاب. ازدادت المواجهة حدةً بين الطرفين بعد قتل الولايات المتحدة، مطلع عام 2020، في قصف جوي في مطار بغداد لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، وذلك في إطار رد أميركي على ما اعتبرته إدارة ترامب محاولة من الفصائل العراقية بتوجيهات إيرانية لاقتحام السفارة الأميركية في بغداد وأخذ منتسبيها رهائن، في مشهد ذَكَّرَ أميركيين كثيرين، بينهم ترامب نفسه، باقتحام السفارة الأميركية في طهران في عام 1979 وأخذ دبلوماسييها رهائن.
منذ عملية الاغتيال تلك، تَحوّلَ إخراجُ القوات الأميركية من العراق الى هدف رئيسي وعلني للفصائل سواء عبر الأعمال المسلحة أو الضغط السياسي أو خليط بين الإثنين. تسبب هذا في الكثير من الإحراج السياسي لثلاث حكومات عراقية متتابعة (حكومات عادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي ومحمد شياع السوداني) على خلفية تقويض الفصائل لسلطة رئيس الوزراء كقائد عام للقوات المسلحة عاجز عن منع عمليات مسلحة ضد قوات أجنبية دعاها العراق رسمياً للمجيء لمساعدته في هزيمة تنظيم "داعش" وإعادة تأهيل القوات العراقية المسلحة.
قد تكون الفائدة الوحيدة من انسحاب القوات الأميركية من العراق هي غلق ملف ابتزاز سياسي مفتوح في سياق اختطاف الوطنية العراقية على يد فصائل مسلحة متحالفة مع إيران ولا تتردد في خدمة المصالح الاستراتيجية الإيرانية على حساب المصالح الوطنية العراقية، كما في ملف الانسحاب. مفارقات عراق ما بعد 2003 كثيرة، وعلى الأكثر ستتواصل، على مدى المستقبل المفتوح، في سياقات مختلفة في ظل سلطة مفككة تدير دولة فاشلة ويصر ساستها دائماً على تذكير جمهورهم العراقي والعالم الخارجي بالسيادة وأهميتها وضرورة الدفاع عنها!