ربما حرق رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أوراقه سلفاً في صفوف اليساريين والمسلمين عموماً، لوقوفه بعناد مع الحرب على غزة وتأييده استعمال الجوع سلاحاً ضد أهلها. ومع إعلان سارة ساكس، المحامية العامة (وزيرة دولة) وبعض نواب الحزب الحاكم، معارضتهم خفض صادرات السلاح البريطاني إلى تل أبيب، تكون أسهمه قد بدأت تتراجع بين أنصارها في حزب العمال. هكذا لم يُرضِ قرار حرمان إسرائيل من قلة قليلة من الأسلحة، معارضيها، كما استفزّ أصدقاءها على رغم استماتة لندن لإثبات حسن نياتها حيالها.
يصف الزعيم العمالي نفسه بـ"البراغماتي" ويلقبه منتقدوه بـ"المتردد". وقد تشبث بموقفه، على رغم الاحتجاجات العارمة واستقالة قياديين في الحزب. إلا أن غزة انتزعت منه 5 مقاعد، واقتربت كثيراً من تجريده من مقاعد أخرى مهمة. فالمرشحون تحت لافتة معارضة حرب الإبادة حققوا مكاسب كبيرة وأسسوا كتلة نيابية جديدة يتصدرها زعيم حزب العمال السابق جيرمي كوربين.
تمثل هذه النتائج تهديداً حقيقياً له، لا سيما أنه لم ينتصر بفضل شعبيته، بل بفعل النظام الانتخابي. لذا اضطر إلى بدء عملية تحول جزئية، حاول أن يجمع فيها بين متوازيين لا يلتقيان: دعم "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها"، ما يعني تأييد حرب الإبادة، والاعتراف بحق الفلسطينيين بالحياة. سحب اعتراضه على إصدار المحكمة الجنائية الدولية أمراً باعتقال بنيامين نتنياهو، ثم أحدث الكثير من الجلبة حول حظر تصدير السلاح، فتوقع بعضهم أنه سيكون ساحقاً ماحقاً. ولما أعلن تجميد رخص التصدير لنحو 30 من أصل 350 قطعة، كان لسان حال الكثيرين يقول "تمخض الجبل...".
زعم وزير الخارجية ديفيد لامي الذي يعرّف نفسه بأنه "صهيوني تقدمي ليبرالي"، أن الحظر الرمزي يعود إلى أسباب قانونية. وشدد على أن اتخاذ هذا الإجراء لا يعني إطلاقاً أن بريطانيا تدين إسرائيل بالتورط في جرائم مخالفة للقانون. وهي تعتزم مواصلة تصدير قطع الغيار لطائرات إف 35 التي تستخدم بفعالية في الحرب. وهذا يؤكد عدم صحة ما تدعيه لندن عادة من أنها تبيع إسرائيل أسلحة دفاعية فقط. فمن يمكنه أن يصنف هذه القاذفات بأنها "دفاعية"؟
وكان هذا موضع انتقاد نواب من الأحزاب كلها وممثلي مجموعات معنية بالدفاع عن حقوق الإنسان ممن أعربوا عن استيائهم من ضآلة عدد رخص التصدير التي جُمّدت. إلا أن الحظر على محدوديته لقي الترحيب عموماً كخطوة طال انتظارها.
وعبّر نواب عماليون، تقدمتهم الوزيرة ساكس ويهود آخرون موالون لإسرائيل مثلها، عن استيائهم البالغ من القرار. وحذا حذوهم محافظون بينهم الوزيران السابقان كيمي بادينوك وروبرت جينريك، أوفر المرشحين حظاً بالفوز بزعامة الحزب.
غير أن أبرز الانتقادات أتت من كبير الحاخامات في بريطانيا إفرايم ميرفيس المؤيد تأييداً مبطناً لسياسات نتنياهو ولحربه. قد يستغرب البعض تدخله في قضية سياسية بدلاً من التركيز على واجباته كزعيم روحي لأقلية (نحو 300 ألف شخص من أصل قرابة 60 مليون نسمة). بيد أن هذه ليست المرة الأولى، فهو حارب جيرمي كوربين زعيم حزب العمال السابق صديق فلسطين الذي اتُهم بمعاداة السامية، ودعا الناخبين صراحة إلى عدم التصويت له.
وعالم الدين الآتي من جنوب أفريقيا لم يخرج عن العرف الذي اتبعه سلفه جوناثان ساكس الحليف القوي لإسرائيل، والمخالف لحاخامات سابقين تحفظوا عن إسرائيل أو عارضوها. وقد ترسّخت صورة إسرائيل التي تستحق التأييد والإعجاب على يدي رؤساء الوزراء العماليين، من هارولد ويلسون في ستينات القرن الماضي وحتى غوردون براون، ممن تفاخروا بصداقتها. ولم يشذ عن القاعدة نفسها المحافظون الذين خلفوهم في الحكم من 2010. وصارت مساندة إسرائيل تدريجياً منسجمة مع "القيم البريطانية"، على عكس الدفاع عن الفلسطينيين الذي يعتبر فعلاً سياسياً يصدر عن أشخاص "متحيزين" يتهمون في معظم الأحيان بمعاداة السامية!
وجاء الرد على معارضي الحظر من المحامي اليهودي الكبير اللورد أليكس كارليل الذي أشاد في مقالة له بقرار ستارمر "الشجاع والصائب" قانونياً. واعتبر أن منتقديه "أظهروا قدراً مدهشاً من الجهل لحظر بيع السلاح لإسرائيل في دول غربية عدة". وانتقد الحكومة السابقة لأنها لم تتصرف كما ينبغي فور تسلمها المشورة القانونية نفسها التي حملت الإدارة الحالية على تطبيق الحظر الجديد.
وهذه إشارة مهمة تؤكد أن مبررات الحظر سياسية وليست قانونية كما ذكر لامي، لأن سلفه ديفيد كاميرون تلقى المشورة ذاتها واختار ألا يستجيب لها، ولو كانت ضروراتها القانونية ملحة لما جازف بتجاهلها.
والواقع أن السياسة لوت ذراع القانون في عهود العمال أكثر من مرة. في أواسط سبعينات القرن الماضي، منع وزير الخارجية حينذاك ديفيد أوين تصدير آليات عسكرية إلى السلفادور بسبب انتهاكات حكامها العسكر حقوق الإنسان، ثم لم يلبث أن أعطى الضوء الأخضر لصفقة سلاح مع إيران في ظل الشاه الذي لم يكن معروفاً باحترام حريات الإيرانيين أو حياتهم. ثم أطلق خلفه روبن كوك في 1997 نهج "السياسة الخارجية الأخلاقية"، لكن رئيس الوزراء توني بلير أعطى الأولوية دوماً لمصالح البلاد الاقتصادية والسياسية على "الأخلاقيات".
كان المحافظون تاريخياً مبدئيين أكثر من العمال بشأن تسليح إسرائيل. تيد هيث منع الطائرات الأميركية التي حملت السلاح في 1973 إلى تل أبيب من الهبوط في مطارات بريطانيا. أما مارغريت تاتشر ففرضت حظراً شاملاً عليها لاجتياحها بيروت في 1982.
أخذ الحظر المحدود ينكأ الجراح الأخلاقية في حزب العمال ويخلط الأوراق داخلياً، ما يجعل بقاءه، ناهيك بتطويره، موضع شك. الزعيم "البراغماتي" أقرب سياسياً إلى بلير منه إلى كوك أو حتى لهيث وتاتشر، وأنطوني بلينكن جاءه "ملتمساً" بعض الليونة مع نتنياهو، فهل يرده خائباً؟