قبل يومين وقع الرئيس التونسي قيس سعيّد قراراً روتينياً بالتمديد لاعتبار المنطقة الواقعة على الحدود المشتركة مع ليبيا والجزائر جنوب البلاد منطقة عسكرية عازلة لمدة سنة إضافية. وقد بدأ العمل بهذا القرار للمرة الأولى في آب (أغسطس) 2013 في سياق الحرب على الجماعات الجهادية الناشطة في الصحراء وتشديد المراقبة على عمليات التهريب والتسلل عبر الحدود. وبين المغرب والجزائر، يدخل قرار إغلاق الحدود عقده الثاني بلا أفق للحلّ قريباً. وبين ليبيا والجزائر، الحدود شبه مغلقة، ومع موريتانيا أقل سوءاً بقليل. تكشف العسكرة المفرطة للحدود في المغرب العربي عن مزيد من التفكك، ومزيد من الانعزال. فهذه الحدود التي كان من المفترض أن تفتح لحركة السكان والأسواق، أصبحت مجالاً للصراع بين دول الإقليم الخمس. وهو صراع تدفع ثمنه هذه الدول، ويدفعه مضاعفاً المواطن المغاربي الذي باتت الهجرة حلمه الوحيد للهرب من ضيق المكان.
فقد ساهم الفشل في توحيد المنطقة تحت مظلة الاتحاد في خلق شعور بالتفكك الاجتماعي والثقافي. وعلى رغم المشتركات اللغوية والتاريخية والثقافية، فإن غياب التكامل الاقتصادي والسياسي الأقوى أدى إلى الحد من التبادلات بين الشعوب والتعاون عبر الحدود. بل أدى أيضاً إلى تعميق الشعور القومي الضيق لدى قطاعات واسعة من هذه الشعوب وبروز نزعات كراهية غذّتها الصراعات السياسية بين الأنظمة. وبالضد من ذلك فإن زيادة القدرة على التنقل بين العمال والطلاب والمهنيين في مختلف أنحاء المنطقة لن تعمل على تعزيز رأس المال البشري فحسب، بل ستعزز أيضاً الشعور بالهوية الإقليمية والتماسك.
إن تكلفة عدم بناء اتحاد المغرب العربي كبيرة، وتتضاعف كل يوم. فقد أدى الفشل في تنفيذ بناء الاتحاد الذي تأسس في عام 1989 إلى إهدار الفرص في قطاعات متعددة، بما في ذلك التجارة والنمو الاقتصادي والاستقرار الإقليمي والنفوذ الجيوسياسي، وبخاصة في مستوى تعزيز سيادة دول الاتحاد في مواجهة النفوذ الأوروبي والأميركي والصيني أو أي نفوذ خارجي. ذلك أن التجارة البينية في منطقة المغرب العربي منخفضة انخفاضاً ملحوظاً، إذ لا تمثل سوى نحو 3-5% من إجمالي التجارة، مقارنة بمستويات أعلى كثيراً في تكتلات إقليمية أخرى مثل الاتحاد الأوروبي (نحو 60%) ورابطة دول جنوب شرقي آسيا (نحو 25%). فمن دون سوق موحدة، تواجه بلدان المغرب العربي تكاليف إنتاج أعلى، وكفاءة أقل، وإمكانية محدودة للوصول إلى الأسواق. في المقابل، سيؤدي أي توجه وحدوي – على الأقل في المجال الاقتصادي – إلى خفض التعريفات الجمركية وتيسير التجارة، وبالتالي خفض التكاليف على الشركات، ما يعزز القدرة التنافسية الإقليمية. وتشير التقديرات إلى أن التكامل التجاري قد يضيف ما يصل إلى 2-3% إلى الناتج المحلي الإجمالي في كل أنحاء الإقليم سنوياً. وهو ما سيخلق بالضرورة فرص عمل، بخاصة بين الشباب، الذي يموت منه سنوياً المئات في قوارب الهجرة نحو الضفة الشمالية للمتوسط. ويقدر البنك الدولي أن تحسين التكامل الاقتصادي قد يؤدي إلى توفير 2.5 مليون وظيفة إضافية في كل أنحاء المغرب.
وفضلاً عن الفرص الاقتصادية المهدورة، تواجه دول المنطقة منفردة ضعفاً جيوسياسياً واضحاً في مقابل القوى التوسعية الكبرى، إذ يضعف الانقسام الإقليمي القوة التفاوضية الجماعية لدول المغرب في التجارة الدولية والدبلوماسية والشؤون الأمنية. فهذه الدول المنفردة تبدو ذات نفوذ جيوسياسي محدود، ولكنها حين تكون معاً، يمكن أن يتحول الاتحاد إلى لاعب أقوى بكثير على الساحة العالمية، وبخاصة في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين والاتحاد الأفريقي. وبحكم موقعه الذي يتوسط أفريقيا وأوروبا يمكن أن يكون في موقع أكثر قوة. فمن شأن ذلك أن يعمل على توسيع الأسواق وتعزيز النفوذ الدبلوماسي. الانقسام يقلل من قدرة المنطقة على الدفاع عن مصالحها في اتفاقيات التجارة أو المنتديات الدبلوماسية، وكذلك في الدفاع عن قضايا تهم المنطقة العربية بصفة عامة، وبالتالي يقلص من المستوى السيادي للمنطقة ويجعل دولها في حالة تبعية متعددة الوجوه للغرب والشرق.
إن تكاليف عدم المُضي في بناء اتحاد المغرب العربي باهظة وتشمل مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والجيوسياسية. والفرص الاقتصادية الضائعة في التجارة والاستثمار والتشغيل، إلى جانب تراجع نفوذ المنطقة على الصعيد العالمي وضعف قدرتها على معالجة التحديات المشتركة، تشكل عبئاً ثقيلاً على التنمية الفردية والجماعية لدول المغرب. وعلى رغم أن العقبات التي تعترض التكامل ــ مثل التنافسات السياسية وعدم الكفاءة البنيوية ــ كبيرة ومعقدة، فإن المكاسب المحتملة تفوق التكاليف إلى حد كبير، وهو ما يجعل التوجه نحو بناء هذا التكتل، ولو بصفة تدريجية مسألة مصيرية لدول المنطقة وشعوبها. ذلك أن التحديات المناخية والاقتصادية والسياسية التي تواجهها المنطقة، لا تستطيع الدولة الوطنية الضيقة مجابهتها. وأيضاً لأن عالماً تسوده تكتلات كبيرة كما هو اليوم، لا يمكن العيش فيه ضمن مقتضيات السيادة الشكلية للدولة الوطنية، فالعوائق الحالية أمام الوحدة ستكون هامشيةً أمام العوائق الآتية بسبب غياب الوحدة، إذ لم يعد من خيارٍ أمام المغاربة فإما الوحدة أو الانهيار.