ارتفعت أصوات بعض المدافعين عن المستهلك في تونس، داعية إلى مقاطعة شراء الصنوبر الحلبي الذي تستعمل حباته لطبخ "عصيدة الزقوقو"، وهي طبق من الحلويات يتميز التونسيون بإعداده كل عام بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي مثلما فعلوا الأحد الماضي.
السبب في الدعوة إلى المقاطعة هو ارتفاع سعر الكيلوغرام من هذه المادة هذا العام إلى ما يقارب عشرين دولاراً، ما جعله في غير متناول الطبقات الشعبية.
تأثير الدعوات إلى المقاطعة كان محدوداً، إذ استمر الإقبال على شراء هذا المنتوج إلى حين الاحتفال بالمولد.
الغريب هو استسهال بعض الناشطين في مجال الدفاع عن المستهلك في تونس الدعوة إلى مقاطعة المنتجات التجارية كلما غلا ثمنها. والدعوة إلى مقاطعة المواد التجارية تلقى عموماً نجاحاً محدوداً في المجتمع التونسي الذي لا يزال غير مقتنع بأن الامتناع عن الشراء هو الحل الأسلم لمشكلة التضخم. بل ينبه الكثيرون إلى أن حملات المقاطعة تعود بالضرر على العامل البسيط قبل غيره. إذ تعيش، مثلاً، من جني الصنوبر الحلبي، آلاف العائلات الفقيرة في مرتفعات الشمال الغربي في تونس.
والأكثر غرابة هو إصرار هؤلاء الناشطين على استهداف العادات والتقاليد الاستهلاكية المرتبطة بالمناسبات الدينية رغم تعلق الناس بها.
دعوات المقاطعة شملت في السابق الامتناع عن ذبح الخرفان بمناسبة عيد الأضحى، على أساس أن شراء الأضحية سوف يثقل كاهل المواطن ويبدد الثروة الحيوانية.
كما شملت حملات الناشطين في مجال الدفاع عن المستهلك الدعوة إلى مقاطعة المواد الغذائية ذات الأسعار النشطة خلال شهر رمضان.
وتركزت حملات هؤلاء الناشطين أحياناً على أسعار ملابس الأطفال ولعبهم أيام عيد الفطر.
لا تلقى الدعوة إلى مقاطعة مواد الاستهلاك المرتبطة بالأعياد والمناسبات الدينية قبولاً كبيراً لدى الجمهور الواسع، كما أنها تثير جدلاً في وسائل الإعلام والمنصات الإلكترونية.
وهي لا تبدو بمثابة الاستراتيجية الصحيحة للمدافعين عن حقوق المستهلك، إذ تضرب مصداقية هؤلاء ولا تخدم سعيهم لبناء وعي لدى المواطن بضرورة ترشيد سلوكياته الاستهلاكية.
في الواقع لم تُوفق بعد حركات الدفاع عن المستهلك في تونس إلى اعتماد المنهجية التي تزيد في نجاعة عملها وتعزز تأثيرها في الحياة العامة، وما زالت تنقصها الدراسات العلمية التي تقدم للجمهور المعلومات الدقيقة عن مدى جودة المواد الاستهلاكية ونقاط الخلل فيها والمضار الصحية التي قد تحتويها أو الجداول المقارنة حول أسعارها. تعوزها كذلك المقاربات القانونية في الدفاع عن المستهلك والمبادرات التي تدفع نحو تشريعات جديدة تحمي حقوق المواطن حمايةً أفضل.
ما يعقّد الأمور هو أن الأسواق غير النظامية التي تحكمها قوانين مختلفة عن بقية الأسواق، تسيطر على حصة كبيرة من الدورة الاقتصادية. تختلط في هذه الأسواق البضائع الجيدة مع تلك التي انتهت مدة صلاحيتها ومع المنتجات المهربة والمستعملة.
واقتناء البضائع والخدمات من خلال هذه الأسواق من دون أي ضمانات أو وثائق تعاقدية يتضمن الكثير من المجازفة، لكن المستهلك ما زال مستعداً لغض الطرف عن حقوقه إن كانت الأثمان أفضل.
بالإضافة إلى ذلك، هناك الكثير من المفارقات التي تميز السلوكيات الاستهلاكية للمواطن التونسي الذي وإن اشتكى من المصاعب المادية فهو لا يتردد في الإنفاق على الأغراض غير الضرورية إن كانت توفر له متنفساً ما.
وفي الوقت الذي يواجه فيه المواطن دعوات إلى مقاطعة عصيدة الزقوقو، يجد نفسه وحيداً أمام الأطراف المتحكمة في السوق مثل البنوك وشركات التأمين والاتصالات وغيرها.
وقد تزعزعت الثقة بين الحريف والبنوك على مدى السنين بسبب انعدام الشفافية حول الرسوم المفروضة على المعاملات المصرفية والشروط المجحفة الموضوعة على طلبات القروض مثلاً.
كما يشوب التوتر في عديد الحالات العلاقة مع شركات الاتصالات. فأنت لا تستطيع إلغاء عقد اشتراك مع إحداها نتيجة العراقيل القانونية التي تضعها أمامك. ولا يستطيع المواطن استغلال عامل المنافسة التجارية بين هذه الشركات، التي عوض أن تتسابق على منحه امتيازات جاذبة، تنسق في ما بينها لفرض شروطها عليه.
وتبقى هذه الشركات بمنأى عن النقد وتسليط الأضواء على هناتها بفضل الجهد الكبير التي تبذله في مجال الدعاية والعلاقات العامة، والذي يبرز مآثرها ويغطي على نقاط الخلل لديها.
أمام مثل هذه التحديات القائمة لا يفهم الكثيرون كيف يركز الناشطون في الدفاع عن المستهلك على الدعوة إلى مقاطعة التقاليد الاحتفالية المرتبطة بالأعياد الدينية، في مبادرات هي بمثابة الدعوة إلى مقاطعة لحظات الفرح القليلة التي يقتنصها المواطن العادي وسط مصاعبه اليومية.
لا يفهم هؤلاء أن المواطن عندما يتدبر أمره لشراء الخروف في عيد الأضحى، فذلك لأن الأمر يتعلق بعادة متأصلة في ذاكرته الجماعية ولأنها معيار لمكانته الاجتماعية، بخاصة في الأوساط الريفية.
وهو عندما يسعى لتوفير الملابس الجديدة واللعب لأبنائه وبناته يوم عيد الفطر فلأن ذلك مصدر فرحة له ولهم ولو كان ذلك مرة واحدة في السنة.
وهو يشعر بأن أطباق الأكل التي يعدها في المناسبات والأعياد تجمع حولها شتات العائلة وتساعد على الحفاظ على العلاقات الأسرية بعدما داهمها التفكك.
نظراً إلى كل ذلك، ينتظر المواطن من منظمات الدفاع عن المستهلك أن توجه بوصلتها نحو ما يشغل باله ويهدد قدرته الشرائية لا ما يضفي على حياته بعض الراحة والسكينة ولو لحين.