يشهد الصراع الإيراني - الإسرائيلي تحولاً جذرياً في ديناميكياته، بعيداً من قواعد الاشتباك الكلاسيكية، خصوصًا مع تصاعد المشهد بدخول "حزب الله" والحوثيين كلاعبين رئيسيين في إطار النزاع، ما يخلق لإسرائيل جبهات عدة، ويضع المنطقة بأسرها على شفا حرب شاملة.
منذ 8 تشرين الأول (أكتوبر)، لم تتوقف الاشتباكات المتقطعة بين إسرائيل و"حزب الله"، لكن ضمن نطاق محدّد، حيث يسعى كل منهما لعدم الوصول إلى مواجهة شاملة، ويبقى احتمال التصعيد العسكري الكبير قائمًا، خصوصاً مع تزايد الضغوط الشعبية والسياسية داخل إسرائيل التي تطالب بتأمين الحدود الشمالية، بعد تعرّض المستوطنات لهجمات صاروخية من "حزب الله"، وكأن هناك من يقول: "طالما انتهت ’حماس‘، فلينتهِ معها ’حزب الله‘".
وما يعيق التصعيد الشامل بين الطرفين هو الموقف الأميركي الحازم ضدّ أي توسيع للصراع. فإدارة بايدن تعيش ضغوطاً سياسية داخلية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وتسعى جاهدة إلى الحفاظ على استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط، تجنّباً لأي تداعيات اقتصادية قد تؤثر على الناخب الأميركي، بينما يعتمد "حزب الله" على تكتيك الاستنزاف الطويل. ويُدرك الحزب وداعموه في إيران مخاطر التورّط في حرب شاملة مع إسرائيل، في ظلّ الوضع الاقتصادي والسياسي المتفاقم أساساً في لبنان، ما قد يجلب كارثة للشعب اللبناني.
لهذا، تحركات "حزب الله" حذرة من دون تجاوز الخطوط الحمر، إلّا أن بالنسبة لإسرائيل فقد تجاوز الحزب الخط الأحمر لقواعد الاشتباك، عندما تسبّب في نزوح عشرات الآلاف من سكان الشمال الإسرائيلي، واستهدف المدنيين في الجولان. وإسرائيل متحفظة حول فتح جبهتين في آن واحد، إلّا أنها قد تبدأ فعلياً في التحضير لفتح جبهة الشمال إن اضطرت، مع شبه الانتهاء من العمليات العسكرية في غزة، ولو أنها مقاربة صعبة الاستمرار لفترة طويلة مع كثافة الضغوط الدولية والاقليمية لإنهاء الحرب وتسوية النزاع.
كما يُعتبر استهداف الحوثيين قلب إسرائيل بصواريخ بعيدة المدى خطوة تصعيدية تهدف إلى توسيع نطاق الصراع، وفتح ثلاث جبهات أمام إسرائيل في غزة والشمال والجنوب. مع ذلك، يبدو أن حكومة بنيامين نتنياهو تحاول التركيز على "حماس" و"حزب الله" في المرحلة الحالية، مع مراقبة الوضع مع الحوثيين بحذر، وأن تطلّب الأمر توجيه ضربات محدودة. والحوثي يسعى إلى تقديم نفسه كجزء فاعل من المحور الذي يواجه إسرائيل، وهو ما يعزز من نفوذهم الإقليمي ضمن وكلاء إيران في المنطقة، كما هو حال حركة "حماس" التي لم تتبق لها أدوات غير استثمار التضحيات التي يقدّمها الشعب الفلسطيني على إثر مغامرة السنوار التي دفع ثمنها الأبرياء.
وظهر عنصر جديد في الحرب التكنولوجية، حين تحوّلت أجهزة "البيجر" التي كانت تُستخدم وسيلة تواصل آمنة وسرّية بين عناصر "حزب الله" وقيادته، إلى هدف لهجمات متقدّمة في الحرب السيبرانية التي تشنّها إسرائيل، ما يمثل ضربة قوية لقدرات الحزب على التواصل الآمن، واختراقًا غير مسبوق لشبكة "حزب الله" التقنية، ويعكس مستوى عالياً في التجسس السيبراني على البنية التحتية التقنية للحزب.
وتعطيل شبكة "البيجر" لدى "حزب الله" لا يقتصر على مجرد إلحاق خسائر بشرية، بل يمتد إلى إضعاف قدرات الحزب على تنسيق العمليات العسكرية، وتوجيه وحداته بشكل فعّال. فمن دون هذه الوسيلة الآمنة، قد يُضطر الحزب إلى استخدام وسائل تواصل أخرى أكثر عرضة للاختراق أو التنصّت، ما يزيد من مخاطر تسريب المعلومات. والأمر لا يتوقف عند الحزب، فالرسالة الإسرائيلية تفيد بأنها طالما كانت قادرة على تعطيل شبكة الاتصال السرّية لـ"حزب الله"، فإنها قادرة على شن عمليات مماثلة على إيران وميليشياتها في شمال اليمن والعراق وسوريا.
تطوّر نوعي في الصراع لم يعد مقتصرًا على القوة العسكرية الميدانية، بل أصبح يشمل أيضًا الجبهات السيبرانية، ما يغيّر قواعد اللعبة، ويطرح العديد من التساؤلات، إن كانت المنطقة تتجّه نحو مواجهة شاملة؟ يبدو أن السيناريو الأكثر ترجيحًا خلال الفترة القصيرة المتبقية إلى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، هو استمرار الوضع الراهن مع تصاعد متقطع للجبهات، من دون الدخول في حرب. فمن الصعب على إسرائيل اتخاذ خطوات عسكرية تصعيدية كبرى من دون ضوء أخضر من واشنطن.
*كاتب وباحث إماراتي