لا يمكن التكهّن باليوم التالي للحرب المستمرة، منذ عام، بين إسرائيل و"حزب الله"، لأن ذلك، أي التصعيد، أو التهدئة، أو الإبقاء على قواعد الاشتباك الحالية التي تخرقها إسرائيل بقوّة وبقسوة، كما حصل في عمليات الاغتيال في الضاحية الجنوبية، وفي تفجيرات وسائل الاتصال أخيراً، لمنتسبي الحزب في لبنان وسوريا، يعتمد على عوامل عديدة مركّبة، تتعلق بالطرفين المباشرين، بمواردهما، ومرجعياتهما.
القصد مما تقدم أن ثمة حرباً، بمعنى الكلمة، بين إسرائيل و"حزب الله"، بدأت في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تجري باسم إسناد غزة، وقد نجم عنها تهجير معظم سكان قرى جنوب لبنان وبلداته الحدودية (حوالي مئة ألف)، وترك أعمالهم، مع مصرع حوالي 500 لبناني معظمهم من منتسبي "حزب الله"، إضافة إلى الدمار الحاصل نتيجة القصف الإسرائيلي، الذي شمل لبنان من الجنوب إلى الوسط والبقاع، في مقابل نزوح عشرات ألوف الإسرائيليين من مستوطنات شمال فلسطين/إسرائيل، لكن إلى منتجعات وفنادق، وتحت رعاية الدولة وضمانتها، الأمر الذي يفتقده المهجر اللبناني. بيد أن المشكلة هنا أن حرب الإسناد تلك لم تغير شيئاً، ولم تخفّف من واقع حرب الإبادة الجماعية المهولة التي تشنّها إسرائيل منذ عام ضد فلسطينيي غزة؛ إذ ثمة فارق هائل في موازين القوى، وقوة النيران، بين إسرائيل والحزب.
أما بما يخصّ المرجعيات، فالقصد هنا يتعلق بالجهة التي تؤثر، أو تتحكم، بقرار الطرفين، أي الولايات المتحدة الأميركية بالنسبة إلى إسرائيل، والنظام الإيراني بالنسبة إلى الحزب، مع تأكيد التمييز في نمط العلاقة، وطبيعة كل من الطرفين المذكورين، إذ تستطيع إسرائيل التأثير في مركز القرار في البيت الأبيض، وحتى الاعتراض عليه، كما ثبت مراراً في التجربة، بسبب طبيعة النظام السياسي الأميركي، وطريقة عمله، فيما لا يستطيع الحزب مثل ذلك في إيران، بسبب طبيعة النظام فيها، الذي يتحكم به المرشد، أو "الولي الفقيه"، وبسبب التبعية المطلقة للحزب للنظام الإيراني، وبالنظر إلى أن ذلك النظام يرى في "حزب الله" مجرد رصيد قوة، في ذاته وليس لذاته، أي للأمن القومي الإيراني.
يستنتج من ذلك أن ثمة عدداً من العوامل التي تؤثر في تشكيل مسار الحرب بين إسرائيل و"حزب الله"، أهمها:
أولاً، إرادة إسرائيل، بقيادة الثلاثي: نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، الذين يتصرفون وفق عقيدة أيديولوجية، قومية ودينية متطرفة، علماً أن وزير الدفاع الجنرال يوآف غالانت، وأركان المعارضة، وضمنهم يائير لابيد زعيم حزب "يش عتيد" (هناك مستقبل)، والجنرالين المتقاعدين بيني غانتس وغادي ديزنكوت (زعيمي "المعسكر الرسمي" في الكنيست)، يؤيدان توجهات الحكومة، لفرض الأمن في الشمال، أي على الحدود مع لبنان، وإعادة الإسرائيليين إلى بيوتهم وبلداتهم التي نزحوا منها بسبب القصف المتبادل، والمحدود، طوال العام الماضي.
ثانياً، في مقابل ذلك، يتصرف "حزب الله" بطريقة لا تبدو يقينية، فهو من جهة يريد إثبات صدقية مبدأ "وحدة الساحات"، وتأكيد مفهومه عن أن إسرائيل "أوهن من خيوط العنكبوت"، وتأكيد قدرته على فرض "قواعد اشتباك على إسرائيل"، ومن جهة أخرى، فإنه لا يريد، أو لا يستطيع، الذهاب إلى حرب يزج بها كل طاقته، أو بنصفها، وهو ما عبر عنه الأمين العام للحزب في شأن انتهاج الحكمة، وفي أن الصراع ضد إسرائيل يكسب بالنقاط وبالتدريج؛ وهو كلام صحيح طبعاً، لكنه يتناقض مع الادعاءات التي طالما روّج لها.
ثالثاً، ثمة ممانعة النظام الإيراني لأي تصعيد في الحرب، من قبل "حزب الله" ضد إسرائيل، لأنه يراه بمثابة رصيد له وحده، ولأن هذا النظام، بغض النظر عن ادعاءاته، لا يريد التورط بحرب، قد تؤدي إلى خسارته النفوذ الذي بات يحظى به في اليمن وسوريا والعراق ولبنان؛ وقد شهدنا أنه يتمنع عن الرد على هجمات إسرائيل على قواته، ومواقع نفوذه في لبنان وسوريا، وحتى في إيران ذاتها، سواء تلك التي استهدفت أنشطته النووية، أم اغتيال بعض قادة "الحرس الثوري"، وآخرها اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في عاصمته طهران.
رابعاً، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فهي بدورها تبدو، لا سيما مع قرب موعد الانتخابات، حائرة في خياراتها، وهي في العموم تميل إلى تبني الخيارات الإسرائيلية في الشؤون الشرق أوسطية، خصوصاً في ما يتعلق ببلدان المشرق العربي، لذلك فإن الإدارة الأميركية لن تعارض قيام إسرائيل بحرب في لبنان، الغرض منها كسر مكانة "حزب الله"، واستعادة قدرتها على الردع في الشمال، وإعادة الإسرائيليين إلى بلداتهم ومستوطناتهم في الحدود مع لبنان. في الغضون تحاول الإدارة الأميركية إيجاد حل يجنب إسرائيل ولبنان الحرب، من خلال الضغط على إيران، وبالتالي على "حزب الله"، لإيجاد حل سياسي لهذه المسألة، يما يؤمن المطالب الإسرائيلية بالطرق الدبلوماسية والسياسية، لكن إذا تعذر ذلك فإنها لن تعارض مسعى إسرائيل لفرض ما تريد، بل ستمدها بكل ما يلزم ذلك عسكرياً ومالياً وسياسياً.
وبحسب تسريب الصحف الإسرائيلية، فإن هجوم الجيش على لبنان سيتم بثلاث درجات؛ الأولى: دعوة سكان المناطق الحدودية المتبقين الذين يقدَّر عددهم بمئة ألف نسمة، إلى الرحيل إلى ما بعد نهر الليطاني، ومن بعد ذلك إفراغ صور ومحيطها من خلال الدعوات والضغط العسكري، وثالثاً: القطع التام بين شمال الليطاني وجنوبه بواسطة تدمير البنى التحتية والجسور، بحيث لا تعود الحياة ممكنةً في الجنوب، وعندئذ التفرغ لتدمير قوات "حزب الله" وقادته. عن ذلك يقول المحلل الإسرائيلي آفي بارئيلي: "ستكون هذه حرباً ضروساً، لكن حيوية لبقاء إسرائيل... من المحظور أن نغفو، مثلما غفونا حيال "حماس"... هجوم شامل في الشمال الآن، قبل لحظة من تحول إيران إلى نووية. ستكون هذه حرباً وقائية وجودية. كما أنها ستفتح أمامنا إمكانيات لإحباط المشروع النووي الإيراني" ("إسرائيل اليوم"، 17/9/2023).
حرب إسرائيل في لبنان ستكون مهولة، إن حصلت (لا سمح الله)، بما لا يقل عن حربها الوحشية في غزة، فهي ترى نفسها وسط تجمع فرص ومعطيات دولية وإقليمية تؤهلها لفرض ما تريده بالوسائل العسكرية التدميرية، وهو ما شهدنا فصلاً منه في تفجيرات وسائل الاتصال المروّعة، قبل أيام، فيما وضع لبنان، مع الواقع العربي، ليس جاهزاً ولا مؤهلاً لأي حرب، لأسباب عديدة ذاتية وموضوعية، باستثناء توافر مادته البشرية؛ لذا ربما الأجدى بذل كل الجهود لقطع الطريق على إسرائيل، وتفويت استهدافاتها في هذه المرحلة.