المعركة بين إيران وإسرائيل على مَن يدير اللعبة، أو مَن يفرض قواعده على المنطقة. وكما اتفق العالم الغربي على حصر حربه العالمية داخل النطاق الجغرافي لأوكرانيا، كذلك لا يزال الصراع الإقليمي بين تل أبيب وطهران لا يتجاوز مربع الحلفاء الذين باتوا الضحية أو رأس الحربة التي تسبق رأس فارسها. أي إن الحلفاء في لبنان يقفون في الصف الأول بدلاً من الإيرانيين، لكن مع فارق أن اللعبة تدار وفق مصالح طهران!
حرب تفوّق
ضربات قاسية تلقاها لبنان بعد حادثة الاغتيالات الجماعية بتفجير أجهزة النداء (بيجر)، حتى أن الفزع تجاوز مساحة أنصار "حزب الله"، وشمل كل اللبنانيين الذين باتوا يشعرون أنهم ضحية الجميع، ومع الأسف لا يمكن التخلي عنهم. ثم أتت عملية الضاحية الجنوبية التي راح ضحيتها قادة لـ"حزب الله"، لا سيما بعض قادة فرقة الرضوان (النخبة) التي تمثل هاجساً أمنياً لإسرائيل، فهي بمثابة القوة الهجومية القادرة على تكرار ما وقع في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) في مستوطنات غلاف غزة، بأن تقوم باجتياح المستوطنات الشمالية لإسرائيل.
وكلاهما حدثان مثّلا خرقاً أمنياً كبيراً للحزب الذي أرادت إسرائيل أن تثبت له أنها لا تزال تسبقه بخطوات، فهي استطاعت أن تفجر الأجهزة البدائية في يد أصحابها، وسط شعورهم بأنهم غير مراقبين. وكذلك استطاعت أن تقصف اجتماع قادة "حزب الله"، بينما الحزب يتشدق بتحصيناته تحت الأرض.
والرسالة الأبعد بالطبع هي إلى إيران التي وضعت إسرائيل تحت ضغط حرب نفسية بتهديدها بالانتقام لمقتل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية على أراضيها. لكن إسرائيل لا تزال تتجاوز الخطوط الحمر لإثبات تفوقها، وقامت بتضمين السفير الإيراني في بيروت مجتبى أماني ضمن عمليات الاغتيال الجماعي التي نفذتها، والآن يرقد للعلاج في مستشفى في طهران.
وبالنسبة إلى لبنان لا حديث عن حرب واسعة، إلا لو حدث خطأ، بل تريد الحكومة الإسرائيلية الانتقال إلى مرحلة تصعيد بديلة للاجتياح البري، هدفها فرض قواعد تل أبيب على الإدارة الأميركية المقبلة.
كما أنها تضغط لفصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، بحيث تنشغل جبهة الجنوب بأزماتها بدلاً من التركيز على إسناد "حماس"، أي تكون إدارة الخريطة السياسية لمستقبل المنطقة في يد إسرائيل وحدها. كما أن نقل ثقل الحرب إلى جنوب لبنان بدلاً من غزة، قبل اجتماع نيويورك، يجعل العالم يضغط على "حزب الله" من أجل تنفيذ القرار الأممي 1701، بما ينزع فتيل الحرب عن المنطقة، ويحقق لإسرائيل منطقة عازلة آمنة على الحدود الشمالية.
استنزاف الطاقة والوقت
حتى الآن لا تريد إيران أن تنجرف إلى حرب واسعة وضع قواعدها بنيامين نتنياهو، بل تريد استغلال حلفائها لوضع إسرائيل في حالة استنزاف لطاقتها ووقتها. ولذلك وقتما وصل وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى نيويورك، مساء الجمعة 20 أيلول (سبتمبر)، قال: "إسرائيل لن تحقق هدفها نحو زيادة التوتر والحرب، لكنها ستحاسب على جرائمها".
ومن أجل أن تبقى إسرائيل في أسر الحرب النفسية، قال أيضاً: "إن اغتيال إسماعيل هنية لن يمر من دون رد". أي أن طهران لا تزال تفكر في ردها الانتقامي الذي مهمته أن تظل إسرائيل مستنزفة في طاقتها ووقتها.
ولا يمكن تجاهل العروض العسكرية على المستويين العسكري والشعبي التي شملت معظم محافظات إيران في ذكرى الحرب العراقية - الإيرانية، السبت 21 أيلول، والتي شملت أيضاً استعراضاً لصواريخ ومسيرات جديدة، وكأنها رسالة إلى إسرائيل بأنها ستظل حبيسة في مرمى المحور الموالي لإيران، من العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى اليمن.
وقد تزامنت مع هذا الاستعراض تصريحات من قادة الحرس الثوري والجيش، بأن إيران لم تتراجع عن انتقامها من إسرائيل، خاصة التهديد من قِبل رئيس مكتب المرشد الأعلى، محمد محمدي كلبايكاني، الذي قال إن "الرد على اغتيال إسماعيل هنية سيأتي قريباً".
وهو ما يعني استنزاف إسرائيل، إذ لن تكون حربها ضد "حزب الله" في لبنان أو ضد جماعة الحوثي في اليمن ذات فائدة، فلن تضمن تحقيق الأمن الدائم لها، بل الأمر سيكون على غرار ما تفعله في سوريا، طوال الوقت مشغولة بمطاردة الشاحنات ومخازن الأسلحة وتمركز منصات إطلاق الصواريخ ضدها.
إيران تركز على أهدافها
يبدو الأمر وكأن إيران تنتقم من إسرائيل التي قضت على طموحاتها الإقليمية ومصالحها مع القوى الغربية، بعدما دفعت الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى الخروج من الاتفاق النووي عام 2018.
ويمكن فهم كلمة المرشد الأعلى علي خامنئي، السبت 21 أيلول، بأنه "إذا استغلت الأمة الإسلامية قوتها الذاتية فسوف تتم إزالة الكيان الصهيوني من قلب المجتمع الإسلامي" بأن إيران بعد عملية طوفان الأقصى، استطاعت أن تضع إسرائيل في دائرة الضغط وأن تدمر خططها، لدرجة أن القوى الخليجية التي شاركت إسرائيل في رغبة السلام والتطبيع، لم تعد تتقبل سلوكها الذي يهدد الخطط التنموية لتلك الدول، وباتت تشترط على إسرائيل حل الدولتين إذا أرادت الاستفادة من الاتفاق الإبراهيمي.
وتركز إيران على تحقيق أهدافها في إطار إظهار التزامها النظام الدولي، لتبدو كأنها دولة تعمل في إطار ما كفله لها القانون الدولي، فبعد اغتيال إسماعيل هنية أو بعد محاولة اغتيال سفيرها في بيروت، لجأت إلى الأمم المتحدة لتمنح رد فعلها تجاه إسرائيل مظلةً قانونية.
وقبل أن يسافر عراقجي إلى نيويورك، كان يخطط لزيارة بيروت لتسليط الضوء على إسرائيل بوصفها الفتى المشاغب في المنطقة. وقبل رحلته أيضاً التقى وزير الخارجية الإيراني أسرة عضو فيلق القدس محمد رضا نوري، الذي تحتجزه القوات الأميركية في العراق، ما يشير إلى أن عراقجي سيركز خلال وجوده في نيويورك على التواصل مع القوى الغربية ومنها الولايات المتحدة، لأولوية المصالح الإيرانية.
كذلك كان مؤتمر الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بمثابة ضوء أخضر لفتح الحوار مع الغرب، الاثنين 16 أيلول، حينما قال: "إذا لم يهددونا فنحن إخوة للأميركيين"! ولذلك يُمكن فهم الرسالة التي بعثت بها واشنطن إلى طهران بعد عملية الاغتيالات الجماعية في لبنان، بأنها لم تكن رسالة تحذير من الجانب الأمبركي، بل التزاماً بحصر المعركة مع إسرائيل.
وكذلك فإن التجاوب الذي أظهرته المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير، الأربعاء 19 أيلول بتصريحها "إننا ننظر إلى الدبلوماسية باعتبارها أفضل وسيلة عندما يتعلق الأمر بالبرنامج النووي"، يشير إلى أن الولايات المتحدة المشغولة بالحرب في أوكرانيا والتوتر في الشرق الأوسط، حاجتها إلى إيران لا تتوقف عند مسألة البرنامج النووي.
والمحصلة، أن رحلة الرئيس الإيراني إلى نيويورك للمشاركة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، لا تنحصر في إزاحة صورة الدولة المارقة نحو إسرائيل، بل للتركيز أيضاً على الحوار مع الغرب، للانتقال إلى مرحلة تتجاوز الحوار الإقليمي، بحيث تثبت طهران لتل أبيب أنها دولة لا يمكن تجاوزها في المنطقة.