تحكي قصة أن رجلاً وبعدما تأمل لوحات بيكاسو المليئة بالخطوط المعقدة وغير المفهومة، قال له منتقداً: "يبدو أنك لا تحسن سوى رسم هذه الخطوط والألوان المتداخلة"! حينها التقط الفنان الإسباني الريشة ورسم حبة قمح على الأرض، بدت الحبة حقيقية جداً لدرجة أن ديكاً حاول التقاطها، انبهر الرجل وسأله ثانية: "لماذا إذن ترسم بهذه الطريقة ولديك هذه الموهبة المبهرة؟" أجاب بيكاسو قائلا: "في الحقيقة أنا لا أرسم للدجاج".
لا تُستمد قيمة هذه القصة من حقيقة حدوثها فعلاً، إنما تعتمد على الفكرة التي تحملها، وبغضّ النظر عن أن بيكاسو قد رسم حبة القمح تلك أم لم يرسم، وأن ديكاً كان حاضراً بالصدفة فأراد أن يحصل عليها، يبقى مغزى القصة حقيقياً جداً في عوالم الفكر المتعددة، الفن والفلسفة والعلم والقيم وغيرها. يتضح هذا المغزى في إشكالية تردد عمل العقل بين البساطة والتعقيد، أيٍ منهما الوسيلة وأيهما الغاية؟ وكيف يتناوبان على استحقاق القيمة؟
كثيراً ما نمدح البساطة ونعدّها قيمة مهمة بحد ذاتها، فننتقد السلوك المعقّد والحياة المعقدة والكتابة المعقدة. كذلك نعتبر تعقّد الطبيعة النفسية مرضاً لا بد من علاجه، ونتحاشى تعقيد المشكلات والمواقف خشية الإخفاق في التعامل معها، كما أننا في الغالب نهرب من العلاقات المعقدة لأن ما تستهلكه من طاقتنا يفوق بدرجة كبيرة ما تمنحه لنا بالمقابل. بالمقابل أيضاً نمتدح بساطة العيش وبساطة الفرد وبساطة الحل، فالبسيط ولأنه متصل بالواضح، يبعث الراحة في النفس والاطمئنان في العقل، ويجعلنا قادرين على الفهم والعمل والإنجاز، وهذا أمر يصنع لنا السعادة على المستوى البعيد ويجعل حياتنا أفضل.
إذا كان الأمر كذلك، وهو فعلاً كذلك في ذم التعقيد وامتداح البساطة، لماذا سنجد أنفسنا إذن ميالين لبيكاسو وخطوطه المعقدة وألوانه المتداخلة؟ مناقشة هذا السؤال في الحقيقة تقودنا إلى ما وراء البساطة والتعقيد، وتحديداً إلى ما تصنعه عقولنا إزاء العالم من حولنا، بمعنى آخر: كيف يتمثل العقل العالم ويفهمه؟ وهل ظواهر العالم هي معطيات بسيطة وواضحة يقوم العقل بتركيبها وتعقيدها؟ أم أنها معقدة في الأصل يعمل على تحليلها وتبسيطها؟
غالباً ما نصادف قصة بيكاسو السابقة مقرونة بمقولة مهمة لفيلسوف العقل المتشائم آرثر شوبنهاور مفادها: الفن ليس تقليداً للطبيعة، بل استكمال لنقصها. والجدير بالذكر أن أرسطو قد سبقه في الفكرة ذاتها في حديثه عن التربية، إذ اعتبر الأخيرة هي استكمال النقص الطبيعي في النفس البشرية، عموما نكاد نجد أغلب مشاريع الفلاسفة والمفكرين انصبت عبر التاريخ على استكمال نقص ما فينا، عقلي أو أخلاقي أو اجتماعي، أو استكمال نقص فهمنا للعالم من حولنا، وهذا ما قام به العلم تحديداً.
هنا.. ورغم غواية البساطة وميل عقولنا إليها أحياناً، إما بسبب الكسل عن التفكير، أو بسبب الخوف من المجهول والرغبة في التصنع بالاطمئنان، رغم ذلك كله، لا يمكن للعقل أن يمضي قدماً في فهم العالم وتفسيره، وفي ابتكار الحلول لمشكلاته، إلا حين يستطيع أن ينزع عنه التبسيط ويتجنب البحث عن الحقيقة في ما هو مباشر وواضح، وبذلك يكون العقل مبدعاً، أي قادراً على ابتكار ما هو جديد ومختلف. ولذلك لا بد من مواجهة التعقيد، ولا بد من الاعتراف بأن البساطة ليست هي الصفة الغالبة علينا أو على العالم من حولنا، بل هي في معظم الأوقات خلل في التفكير ينبغي إصلاحه وتجاوزه. وحيث أنه لا يمكننا أن نلغي البساطة تماماً، ولا أن نتجاهل ما فيها من جماليات وإيجابيات، يجب علينا أن نعيد تعريفها لنستطيع وضعها في موضعها المناسب والصحيح.
هل هذا العالم البسيط معقد حقاً؟
يتداخل الموقف من البساطة مع أزمة فهم العالم بشكل معقد يحتاج القليل من التوضيح، في السابق وقبل تأسيس العلم النظري (الفلسفة) حاول الإنسان فهم العالم (البسيط نسبياً) بشكل معقد، فاخترع الآلهة وكتب الأساطير ليفهم الظواهر الطبيعية من حوله، وعلى رأسها ظاهرة الوجود نفسه، ووجوده هو فيه؛ ما سببه؟ وما غايته؟ وماذا بعده؟ لكن الأساطير حين قدمت إجاباتها للعقل، وكان هذا أمراً مهماً، قدمت له أيضاً ما هو أهم من ذلك، أقصد هنا اكتشاف العقل ذاته، والذي سرعان ما أدرك (ونحن نتحدث هنا عن فترة امتدت آلاف السنين) أن ما تحمله الأسطورة في جوهرها هو أمر غير عقلي بذاته، وحين تخلى عنها جاءت الفلسفة لتحل محلها، ولتستبدل تعقيد الوعي الأسطوري ببساطة لافتة ومدهشة، إذ لم تعد الآلهة أصل العالم وسبب وجوده، بل الماء، أو النار، أو الهواء، أو العدد، أو الجزء الصغير الذي لا يمكن تجزيئه (الذرة)، أو أي مبدأ بسيط جداً وواضح جداً.
تطورت الفلسفة وطوّرت معها العقل الإنساني مرة أخرى ليعود فينقلب عليها، ولتتحول استراتيجيات المعرفة من فهم جوهر الموجودات إلى فهم العلاقات بينها، هنا لم يعد التبسيط هدفاً يلفت انتباه العقل، بل التعقيد هو الهدف، أي لم يعد العالم معطى بسيطاً أو جوهراً واحداً، بل عدداً لا نهائياً من الموضوعات التي ترتبط فيما بينها بشبكة معقدة من علاقات التأثير المتبادل. أدرك الإنسان أن فهم هذا التعقيد يحتاج إلى ما هو أكثر من الفلسفة.. وهكذا تأسست العلوم وتعددت بتعدد جوانب العالم، وما زالت تتعدد وتنقسم بشكل يتناسب طرداً مع زيادة إدراكنا للعلاقات المعقدة التي تربط بين مكونات العالم وموجوداته.
اللافت للانتباه عبر هذه المسيرة العقلية أن البساطة بقيت حاضرة أيضاً ولم تغب، ولكن مكانها أصبح في نتائج المعرفة لا في مقدماتها، فالمادة مثلاً تتكون من جزيئات بسيطة وأولية (الفيزياء)، أما أنواعها فعناصر تتكون من ذرات بسيطة وأولية (الكيمياء)، والحياة تبدأ بخلايا حية بسيطة وأولية (الأحياء)، استمر هذا الفهم فترة من الزمن قبل أن يعود الإنسان فيكتشف أن كل ما ظنه بسيطاً وأولياً هو معقد أيضاً لأنه مركب من أشياء أبسط منه. واليوم يعتقد كثيرون أنه لا يمكن الوصول إلى شيء بسيط بساطة مطلقة.
رحلة العقل مع الوجود رحلة شيقة، إذ لكليهما دور في صناعة الآخر.. وتعقيده. لذلك لما كان العقل طفولياً ساذجاً وسطحياً كان يظن أن الوجود على شاكلته بسيط وواضح وواحد، لكننا ندرك اليوم أن الوجود (ورغم بساطته غير المفهومة) مليء بعوالم متعددة، فالرياضيات عالم مستقل بذاته يتصور المكان كما يفترضه، هناك رياضيات البعدين، أو الأبعاد الثلاثة كما هو عالمنا المادي، وهناك رياضيات العالم المتعدد الأبعاد وفيه تتغير كل المسلمات الرياضية التقليدية. ولدينا في الفيزياء عالم أرضي أيضاً، وعالم آخر هو الفضاء ذي القوانين التي تختلف كلياً عن قوانين الكرة الأرضية، ثمة أيضاً عالم فيزيائي داخل الذرات لا يمكن رؤيته، ومع ذلك هو عالم كبير جدا مقارنة بما يحتويه من مكونات.
وليست العلوم أم العوالم فحسب، فالعالم الاجتماعي أيضاً هو مستويات متعددة لعوالم مختلفة، الاقتصاد عالم مستقل فيه ومنطوٍ على عوالم أصغر (عالم المال وعالم الإنتاج وعالم التجارة..)، والسياسة أيضاً، والعادات الاجتماعية. كما أن لكل لغة من اللغات عوالمها المتباينة، والمتمايزة بألفاظها وقوانين استعمالها وقواعد نحوها، والأديان مثلها حتى لو تشابهت واشتركت في بعض مسلماتها هي عوالم مختلفة (عالم الحياة الدنيا، وعالم السماء، وعالم الملائكة، وعالم الجنة والنار). ولن ننسى آخر عوالمنا المستجدة اليوم، أقصد العالم الافتراضي المخيف الذي بات منافساً قوياً لما نسميه العالم الواقعي، بعدما نجح في إلغاء المسافات وإذابة الجهات، واستطاع أن يختزل العالم كله في شاشة صغيره يحملها الإنسان بيد واحدة.
حدود البساطة وفضائلها
لا تثريب علينا في أن نستمتع بالبساطة وما فيها من جمال، وأن نضعها في موضعها الذي تستحقه، ونتخذها قيمة في المرح والتواصل والتعليم، ولا حرج في أن ننشدها في كل موقف نظن أننا مستغنين فيه عن التعقيد، كأن نجعلها حاضرة في شيم الأخلاق وفي العلاقات الأسرية والاجتماعية، وفي المأكل والمشرب، وفي كل حدود ضيقة وواضحة، أما حين يتعلق الأمر بكل ما هو واسع وكبير وجدي فسيكون اللجوء إلى البساطة سحراً ينقلب على الساحر، وستتحول إلى نقيصة ونحن نظنها حميدة.
ليست البساطة مفتاح فهم العالم، بل هي أسلوب للعيش فيه بعد أن نفهمه، ولن يتسنى لنا فهمه إلا إذا أدركنا أنه متعدد الأبعاد والسياقات، ومليء بالتعقيدات المتشابكة، وفهم هذه التعقيدات على حقيقتها هو ما يجنبنا الوقوع في فخ التعميم ويسمح لنا بتقدير خصوصية كل موقف وكل حالة. أيضاً يؤدي تجاوز التبسيط والتعميم في نظرتنا إلى العالم إلى تحفيز التفكير النقدي القائم على التساؤل والمراجعة والشك، ويمكّننا من اكتساب معرفة صحيحة قدر المستطاع، تصنعها عقول نشطة مشاغبة تتقبل عدم اليقين، فلا تستسلم للوهم ولا تنخدع بالظاهر.
وللنظر إلى تعقد ظواهر العالم بدلاً من تبسيطها فوائد أخرى ليست محصورة في فهمنا الحقيقي له، بل وتنعكس أيضاً على فهمنا لأنفسنا وللآخرين من حولنا، إذ يؤدي إدراك التعقيد في العواطف والمشاعر الإنسانية إلى تعزيز تعاطفنا مع الآخرين وفهمنا لاحتياجاتهم وقبولنا لاختلافهم واستقلاليتهم، ولذلك فإن بناء أي مجتمع متماسك اليوم لا يمكن أن يتأسس إلا على فهم الطبيعة المعقدة للظاهرة الإنسانية، ولشبكة العلاقات المتبادلة بين أفرادها.
الأفكار البسيطة ومخاطرها المعقدة
أهمية الأفكار وخطورتها وجهان لعملة واحدة، إذ من المسلّم به أن الأفكار هي محرك السلوك وموجهه، وأفكارنا حول أي شيء هو محصلة نظرتنا إليه وتفكيرنا فيه، وأخطر أنواع النظرات هي التي نصفها بأنها نظرة مبسطة وساذجة، وعادة ما تتسبب في تزويدنا بالأفكار الناقصة والمشوهة والخاطئة، والتي بدورها تدفعنا للقيام بسلوكيات تحمل الصفات ذاتها.
والنظرة المبسطة للمشكلات المعقدة لا تؤدي إلى الفشل في حل هذه المشكلات فحسب، بل سيكون من المحتم أن تعقدها أكثر من قبل، وأن تتسبب بمشكلات جديدة لم تكن موجودة في السابق، حتى الحلول التي كانت مناسبة في مرحلة ما، ستغدو غير مناسبة وستصبح جزءاً من المشكلة وعقبة جديدة لحلها. وهذا شبيه بقانون عام يكاد ينطبق على عدد لا يحصى من المشكلات، لنأخذ مثلاً أكبر مشكلاتنا وأشهرها، مشكلة فلسطين، والتي أكاد أوقن أننا لم ننظر لها يوماً النظرة الصحيحة والعميقة في الوقت المناسب، بل كنا وما زلنا متأخرين دائماً في فهم أبعادها العميقة، حتى أصبحت من أعقد مشكلات التاريخ بحسب رأي كثيرين غيري، وما زال السواد الأعظم من العرب، والفلسطينيين بالدرجة الأولى، أسير نظرة ساذجة ومبسطة عن المشكلة وحلّها.
وهكذا في أغلب المشكلات، ينظر السياسي للفقر في المجتمع مثلاً نظرة مبسطة، ويبني عليها حلوله فيزداد الفقر. أو ينظر للحرية نظرة ساذجة، فيحولها إلى انفلات يتسبب بالفوضى، ثم يعود فيلجأ إلى الاستبداد لضبطها. والأمر ذاته حين ينظر إلى العلاقات الدولية نظرة مبسطة وساذجة، فلا يصحو من سذاجته إلى حين يصبح في آخر الأمم والمغلوب على أمره بينها.
وعلى أمثلة السياسة قس في كل جانب من جوانب الحياة، لتكتشف كيف أن العجز عن مواجهة التعقيد في المشكلات هو السبب الرئيس في نموها واستعصاء إبداع الحلول لها. هكذا يتحول التقدم الاقتصادي المرغوب إلى أزمة وانهيار، وهكذا تنتهي مشاريع التنمية إلى الجمود والتخلف، وهكذا يصبح الإنسان كائناً ذا بعدٍ واحدٍ، هامشياً وزائداً على الحياة.