توجه الأسبوع الماضي أكثر من مليونين و350 ألف تلميذ نحو المدارس والمعاهد في مختلف أنحاء البلاد التونسية. وسوف يرافقهم في السنة الدراسية الجديدة أكثر من 154 ألف مدرس وملايين الآباء والأمهات. كما سيرافقهم حلمهم بأن تكون المدرسة العمومية (الحكومية) جسرهم إلى غد أفضل.
لا تزال هذه المدرسة تحتضن الأغلبية الساحقة من التلاميذ. ولا يزال التونسي يعتقد أن التعليم هو أول حقوقه، وذلك على أساس مبدأين أساسيين هما مجانية الدراسة وإلزاميتها حتى سن السادسة عشرة.
لا يزال التعليم مجانياً من الناحية النظرية. ولكن هذه المجانية تآكلت مع مرور الأعوام، إذ زاد إنفاق الأسرة على التعليم، رغم مصاعبها المادية.
تضخم الإنفاق على الأدوات والكتب المدرسية كثيراً. وتقول دراسة أجرتها مؤسسة كونراد أديناور الألمانية وشركة سيغما التونسية للاستطلاعات، هذا العام، إن هذا الإنفاق زاد بنسبة 48 في المئة بين سنتي 2021 و2023.
أما العبء المادي الأكبر فتشكله الدروس الخصوصية التي تسعى أغلبية العائلات الى توفيرها لأبنائها نتيجة اقتناعها بتدهور جودة التعليم وعدم كفاية الفصول العادية في المدارس الحكومية.
تحولت مسألة الدروس الخصوصية إلى معركة ليّ ذراع بين النقابات والسلطات نظراً إلى الفوضى التي تدخلها على الحياة المدرسية والضرر الذي تلحقه بمبدأ تكافؤ الفرص بين التلاميذ.
فكلفة الإنفاق على الدروس الخصوصية ليست هينة. يشير المنتدى الاقتصادي والاجتماعي (غير حكومي) إلى أن معدل الكلفة الإجمالية التي تتحملها العائلات في تونس مقابل الدروس الخصوصية يناهز 450 مليون دولار في السنة. وتقول الأرقام إن حوالي 80 في المئة من تلاميذ الثانوي وتلميذاته يتلقون دروساً خصوصية، بما يوحي بأن منظومة الدروس الخصوصية تحولت إلى ما يشبه منظومة تعليمية موازية.
هناك بكل تأكيد تراجع في مستوى التعليم. ويظهر ذلك من خلال أداء التلاميذ والطلبة بعد التخرج باستثناء المتميزين منهم، ومن المؤشرات الدولية حول مستواهم العلمي.
وقد نسبت وسائل الإعلام إلى وزير التربية منذ عامين قوله إن "75% من تلاميذ السادس الابتدائي و83% من تلاميذ التاسع من التعليم الأساسي في حالة شبه أمية".
هناك أيضاً سباق محموم بين الأولياء (قبل التلاميذ أنفسهم) من أجل ضمان التفوق في الامتحانات مهما كانت درجة استعداد التلاميذ لذلك.
يرهق الإنفاق على الدروس الخصوصية بالخصوص شرائح المجتمع المتوسطة الدخل، وذلك خلافاً للأقلية الموسرة التي تسمح لها إمكانياتها بإرسال أبنائها إلى المدارس الخاصة بدءاً بالمرحلة الابتدائية.
ازداد الإقبال على التعليم الخاص خلال السنوات الأخيرة. وتمثل المدارس الابتدائية الخاصة حوالي 13 في المئة من كل المدارس الابتدائية وتضم 8 في المئة من تلاميذ الابتدائي.
ولكن المدارس الخاصة تبقى نتيجة ارتفاع رسومها في غير متناول معظم الأسر التونسية، بالإضافة إلى عدم توافرها في المناطق الداخلية من البلاد.
ورغم تذمرها المستمر من المصاريف، تتحمل الأسر ذات الدخل المتوسط العبء المادي لكلفة الدروس الخصوصية وتصر على تأمينها لأبنائها.
ولكن المسألة أكثر تعقيداً بالنسبة إلى الأسر الفقيرة في بلاد يبلغ معدل الفقر فيها، بحسب الأرقام الرسمية لسنة 2022، أكثر من 16 في المئة من السكان. وتجد الأسر الفقيرة، بخاصة في المناطق الريفية النائية صعوبة في تغطية مصاريف دراسة أبنائها وتنقلهم. وفي بعض المناطق تغيب وسائل النقل تماماً، ما يجعل الكثيرين يفضلون استبقاء أبنائهم في البيت توفيراً للمصاريف أو للمساعدة على كسب الرزق.
ويساهم ذلك في تفاقم ظاهرة انقطاع التلاميذ (وبخاصة التلميذات) عن الدراسة. وذكرت إحدى الإحصائيات أن 109 آلاف تلميذ وتلميذة انقطعوا عن الدراسة خلال سنة 2022 وحدها، أي بمعدل 300 تلميذ كل يوم. وتتواصل المشكلة إلى اليوم بما يزيد في انتشار الفقر والبطالة وظواهر مثل الهجرة غير الشرعية والجنوح.
ويتسبب ذلك في زيادة نسبة الأمية لدى الشباب. وقد صرح الرئيس التونسي السنة الماضية بأنه "عار على تونس أن يبلغ عدد الأميين فيها مليونين".
في نهاية المطاف أصبح المجتمع التونسي يتعامل مع التعليم بحسب أوضاع فئات ثلاث: فئة ذات دخل متوسط تصارع بكل السبل ولو بالاقتراض من أجل مواجهة الكلفة المتزايدة للتعليم الخاص، وطبقة فقيرة تحاول استبقاء أبنائها في المدارس الحكومية ولكنها كثيراً ما تفشل في ذلك، وأقلية لها الإمكانيات المادية الكافية التي تسمح لأبنائها بارتياد المدارس الخاصة.
تناقض الفروق الاجتماعية مبدأ تمتع الجميع بالحق في التعليم على قدم المساواة. ويشكل ذلك جانباً من التحدي الذي تواجهه تونس في سعيها لإعادة الاعتبار للمدارس الحكومية التي تبقى القاطرة الحقيقية للتعليم، مهما كانت العوائق التي تقف اليوم في طريقها.
ولكن رفع هذا التحدي يحتاج إلى توفر جملة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. من ذلك تحقيق استقرار سياسي يقي قطاع التعليم من الهزات التي تحدثها محاولات الإصلاح المرتجلة وما تعنيه من تغييرات في المناهج تكاد لا تنتهي.
تحتاج البلاد كذلك إلى تحسن في الأوضاع الاقتصادية بما يسمح للدولة بضخ الموارد المالية الكافية لتطوير قطاع التعليم، بما يشمل المناهج وتأهيل الكفاءات البشرية، وتعهد البنية التحتية المتآكلة للمؤسسات التعليمية إلى حد أن المئات من المدارس تفتقد حتى الماء الصالح للشرب.
يجب ألا تصبح مجانية التعليم وإلزاميته مجرد شعارات. فذلك من شأنه أن يهدد ما حققته مدارس تونس من نجاحات ومكاسب جعلت من خريجيها الثروة الحقيقية للبلاد.