ظاهرة الحرب هي "صراع فى الرغبات" بين طرفين أو أكثر، ذروة قصوى من ذرى التاريخ، تشكل جغرافيات جديدة، تغير حيوات الشعوب، إلى الأسوأ أو إلى الأفضل، ضمن ثنائية الزمان والمكان والظروف، تفرز تفاعلات العالم الحديث أشكالاً جديدة من الحروب؛ بالنظر إلى تضارب المصالح بين الدول على مسرح السياسة الدولي، من بين هذه الأشكال ما يسمى "الحرب السيبرانية"، مثل تلك الضربة التي تلقاها "حزب الله"، في مفتتح التصعيد الإسرائيلي لتغيير وجه الشرق الأوسط على حد تعبير بنيامين نتنياهو!
حرب سيبرانية
دخلت منطقة الشرق الأوسط رسمياً عصر الحروب السيبرانية، على حد وصف صحيفة "واشنطن بوست"، التي حوّلت الأجهزة الإلكترونية الذكية إلى سلاح خطير، ضد من يقتنيه؛ بتفجير إسرائيل آلاف أجهزة "بيجر" ولاسلكي يستخدمها عناصر "حزب الله" في أكبر خرق أمني يتعرض له الحزب. تحوّل نوعي تعدى الخطوط الحمر لقواعد الاشتباك بينهما. ضربة استباقية شلّت قدرات الحزب اللوجستية وشبكة اتصالاته. اعترف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت ضمنياً بارتكاب العملية، مبيناً أن مركز ثقل الحرب الإسرائيلية بدأ يتحرك شمالاً، بينما أوضح رئيس أركان جيش الاحتلال هيرتسي هاليفي أن تل أبيب لديها الكثير من القدرات التي لم تستخدم بعد.
تفجيرات "البيجر" ومن قبلها اختراق "صاروخ حوثي" منظومات الدفاع الإسرائيلية وسقوطه في قلب تل أبيب، أظهرت أن شرر حروب التكنولوجيا تطوّق الشرق الأوسط؛ ما أعاد طرح السؤال الذي حيّر العقل العربي قديماً: كيف استطاعت إسرائيل الانتصار في كثير من مواجهاتها مع العرب، وأن توسع حدودها متجاوزة قرار التقسيم عام 1947م حتى اليوم؟... ترفض دعوات السلام، تقترف جرائم الإبادة الجماعية وتلهث لإشعال الحروب الظاهرة والخفية في جنبات الإقليم. المفارقة أن حدود إسرائيل الراهنة تجعلها في وضع استراتيجي بالغ السوء والضعف؛ إن تعرضها لهزيمة كبرى كفيل بإنهاء وجودها، رغم ذلك لا تتوقف عن النزال والمناكفة، فما السر في ذلك؟
أحد وجوه الإجابة يتمثل في انعدام الإرادة السياسية العربية (الجماعية) للمواجهة، في ظل التفكك العربي، الوجه الآخر لهذه الحالة الصراعية يتمثل في الفجوة الهائلة بين حالة العرب وإمكاناتهم، وطموح الكيان الصهيوني وتطلعاته، جوهر الأمر يتجسد في معادلة الكم العربي والكيف الإسرائيلي، معادلة نسبية وليست مطلقة، يدرك الإسرائيليون هذا ويتغاضى عنه العرب. في عام 1979 خاطب المفكر ووزير الخارجية الإسرائيلي أبا إيبان الكنيست، قائلاً: "إن وجود إسرائيل كله موضوع في الميزان، بين الكم العربي والنوعية اليهودية"؛ ودأب قادة إسرائيل على ترديد هذه المعادلة بفخر، والسعي لتجسيدها واقعياً، كلما سنحت الفرصة، وكثيراً ما تسنح، تشير محددات الصراع إلى تفوق إسرائيل على العرب، مع استثناءات قليلة، منها حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 على سبيل المثال.
رأس الرمح
التفوق الإسرائيلي هو تفوق نوعي أو كيفي، في مواجهة التفوق الكمي أو العددي العربي الكاسح، لكن "غير المفعل" أو "غير المستخدم" بكيفيات أو آليات تجعله يؤتي ثماره المنشودة؛ يتفوق العرب من حيث المساحة والسكان والموارد الاقتصادية والعسكرية أيضاً. لكن إسرائيل استطاعت أن تجعل التفوق التكنولوجي رأس الرمح لربح مواجهاتها مع العرب؛ تعوّل إسرائيل على امتلاكها أحدث التكنولوجيات على امتداد عقود الصراع؛ تسهم في إنتاج تكنولوجيات الفضاء والأقمار الاصطناعية وأنظمة الصواريخ والطائرات من دون طيار والأسلحة النووية والهيدروجينية والليزر والحواسيب والبرمجيات والاتصالات والمعلوماتية والطب والصيدلة، إلخ.
صحيح أن خزائن أميركا وأوروبا مفتوحة أمام إسرائيل تعبّ منها مالياً وتقنياً، ويقدر الدعم الأميركي المخصص لإسرائيل خلال السنوات العشر المقبلة بـ30 مليار دولار أميركي، لكن الكلمة المفتاحية - في تقدمها علمياً وتكنولوجياً - هي التعليم والبحث العلمي، إذ تحتل المركز الأول عالمياً في الإنفاق على التعليم فى شتى فروع المعرفة لدرجة مكّنتها من الانتقال من كيان استيطاني يعتمد على الزراعة، إلى دولة ترتكز بنيتها العسكرية والصناعية على اقتصاد المعرفة، وهو من أكثر الاقتصاديات تنوعاً في المنطقة، يعتمد على الصناعات العالية التقنية، وتحتل جامعاتها مراكز متقدمة في أبرز التصنيفات العالمية. تحوز المرتبة 15 على العالم بأبحاثها في العلوم البحتة والتطبيقية، هناك عالم لكل 10 آلاف إسرائيلي، مقابل عالم لكل 100 ألف عربي. كل براءات الاختراع العربية لا تتعدى 5% من براءات الاختراع المسجلة في إسرائيل، وهي نقطة جذب للكفاءات المهاجرة من عواصم عالمية، بينما تعتبر البلدان العربية أكبر منطقة طاردة للكفاءات في العالم، تسهم بنحو 31% من الكفاءات المهاجرة من الدول النامية إلى الغرب.
موازين القوى
رغم كل ما تقدم، الصورة ليست قاتمة تماماً، يتفوق العرب - مجتمعين - على إسرائيل استراتيجياً، تفوقاً كاسحاً، في عناصر القوة الشاملة التي يتخذها الخبراء كمؤشرات لقياس موازين القوى. التفوق محسوم للعرب كمياً، على المستوى النظري، بمعنى أن التفوق العربي "الحقيقي" مرهون بتحول الكم العربي إلى "كيف"، ليس في مواجهة إسرائيل فحسب، بل في مواجهة قضايا الأمن والتنمية، أياً كانت التطورات على محور الصراع العربي - الإسرائيلي. يشمل هذا المبدأ كل مكونات المعادلة التكنولوجي منها والعسكري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي على حد سواء، أو على مستوى إدارة الأزمات والردع؛ حيث تمثل التكنولوجيا عاملاً حاسماً في حياة الشعوب، ومعارفهم وهوياتهم وعلاقاتهم بل وجودهم، التكنولوجيا باب للأمل والخطر، من دون التكنولوجيا يعاني الأمن القومي العربي انكشافاً وخللاً رهيباً لا يمكن قبولهما.
ولا مفر من رفع القدرات العلمية والتكنولوجية العربية، وأولى الخطوات هي الاهنمام الفائق بالتعليم والصحة، الإنسان قبل أي شيء؛ حتى لا تصبح التكنولوجيا قاتلاً للعرب في بيوتهم، بمجرد "كبسة" زر "ضربة كيبورد"؛ حتى وقت قريب، نُظر بإعجاب إلى جهود تسخير التكنولوجيا لتحقيق مصالح الناس، لكن تعاظم سطوة "الذكاء الاصطناعي" والأسلحة الذكية أحدث انقلاباً في المجتمع الإنساني لم يخطر على بال؛ يمكنه أن يغيِّر طبيعة المعارف والحروب والاقتصاد والمجتمع، ويصبح أشد خطورة حينما تملكه جماعات أو دول يحكمها "قتلة" ينتهكون حقوق الإنسان مثل إسرائيل التي تغيّر الشرق الأوسط إلى الأسوأ والأبشع!