على رغم من أن مقتدى الصدر كان قد انسحب من العملية السياسية بعدما حقق انتصاراً مدوياً في الانتخابات التشريعية عام 2021 وسلّم مقاعد أتباعه في مجلس النواب إلى خصومه المهزومين، فإن هناك مَن لا يزال يعتبره عقبة في طريق العملية السياسية التي هي الجدار الذي تستند إليه السلطات الثلاث، لا لتؤدي مهماتها، بل لتحمي القائمين عليها من أي شبهات من خلال إضفاء نوع من الشرعية عليهم. وتلك شرعية لا يمكن للشعب في العراق التراجع عنها على رغم أن أصواته هي التي أقرتها. ولو كان الشعب يملك تلك الحظوة لكان قد سحب الشرعية من مجلس النواب الذي يصر أعضاؤه على إقرار ما يُسمى بقانون الأحوال المدنية الجعفري على رغم أن المجتمع العراقي في جزء كبير منه رافض له.
فالمعارضة التي يمثلها التيار الصدري لا تراقب عمل السلطات الثلاث، وهي ليست معنية بما يمكن أن تسببه الأخطاء التي ترتكبها تلك السلطات للعراقيين من متاعب وضيق أفق العيش وإرباك للتركيبة الاجتماعية، بما في ذلك التسبب في معاناة الأطفال والنساء. كل النشاطات التي يقوم بها التيار الصدري الذي يملك ميليشيا مسلحة هي "سرايا السلام" إنما تهدف إلى التذكير بأنه لا يزال يحظى بالشعبية التي تتيح له قلب العملية السياسية من خلال إشاعة الفوضى. يعرف خصوم الصدر أنه يلوح بنفوذه من أجل غايات بعيدة عما يفكر فيه المراهنون خطأً عليه.
الابن المتمرد في أحضان العائلة
ما يحظى به الصدر من شعبية لا يحظى بها أي زعيم شيعي آخر في العراق. فلا نوري المالكي ولا قيس الخزعلي ولا هادي العامري ولا عمار الحكيم يمكن أن ينافسوه في ذلك المجال. ولكن الرجل، على رغم معارضته لرموز الحكم الذين ذكرت عدداً منهم، لم يضع في أجندته إزاحة خصومه عن الحكم عن طريق الضغط الشعبي. لقد فشل في قيادة الحكم في العراق بعد انتصاره الانتخابي بسبب خلو جعبته من برامج سياسية واقتصادية يمكنها أن تنقذ العراق من الفساد. كان ذلك عذراً أقبح من ذنب. غير أن من المؤكد أن الرجل الذي ظهر على الساحة السياسية بعد الغزو الأميركي يعتبر نفسه مسؤولاً عن الحفاظ على بقاء النظام السياسي الذي تبناه باعتباره وارث "شهيد" لم يكن مقبولاً من مرجعية النجف والأحزاب الشيعية المقربة إلى إيران، وفي مقدمتها حزب "الدعوة". لقد كره نوري المالكي زعيم ذلك الحزب مقتدى الصدر لأنه وارث محمد صادق الصدر الذي كرهته إيران. وللسبب نفسه أحبته الملايين التي كانت معجبة بأبيه. غير أن اليتيم الذي يتوزع السؤال حول مسؤولية مقتل أبيه وأخويه بين جهتين، الحكومة العراقية والأحزاب الشيعية التابعة لإيران كان قد حسم الأمر حين استمر بولائه لمرجعية إيرانية. غير أن ذلك لم يغير شيئاً من موقف مرجعية النجف والأحزاب الشيعية الموالية لإيران. حاول الصدر أن يسوّق نفسه من خلال صورة يجلس فيها بين خامنئي وقاسم سليماني في مجلس عزاء باعتباره الابن المتمرد الذي لا تستغني عنه العائلة. سيُقال إن الصورة لا تكفي. سيظل مقتدى الصدر غرزة نشاز في النسيج الذي تشكل منه النظام العراقي الجديد.
بعدما وضع الفقراء في محفظته
لم يرث مقتدى الصدر من أبيه الفقر، غير أنه ورث الفقراء الذين لا تزال الغالبية منهم تتخبط بفقرها على رغم أن قدوتها صار يدبر إمبراطورية اقتصادية تجاوزت حدود ما هو مخصص لتياره في الموازنة السنوية العامة، وما تجنيه المكاتب الاقتصادية في الوزارات المخصصة له من أرباح، سواء من أموال تلك الوزارات أو من العقود والصفقات التي تحوم حولها شبهات الفساد.
ثراء الصدر لم يؤثر على سمعته منقذاً للفقراء. في هذه النقطة بالذات يشكل وجود الصدر حلاً يمكن من خلاله التنفيس عن حالات السخط والغضب والرغبة في التغيير عن طريق العنف. وليس خافياً على أحد أن الصدر نجح عن طريق التظاهرات أن يحوّل الغضب الشعبي إلى كرنفال ينتهي في توقيت متفق عليه مسبقاً مع الأجهزة الأمنية التي لن تكون مضطرة لإطلاق الرصاص. الصدر وأتباعه المباشرون مطمئنون إلى أن خطأً لن يقع وأن المسرحية ستصل إلى نهايتها المرسومة سلفاً، وستكون الحافلات في انتظار المتظاهرين للعودة بهم إلى بيوتهم. تلك خدمة مجانية. ما فعله الصدر من أجل الإبقاء على النظام السياسي لم يفعله أحد من رموز ذلك النظام.
انتهى زمن الفوضى
لماذا إذاً يشعر زعماء الميليشيات والأحزاب بأن عودة الصدر إلى العملية السياسية تشكل خطراً على مستقبل العملية السياسية المعلبة؟ ذلك سؤال مضى زمنه بعدما تأكد الجميع أن الرجل يقول شيئاً ويفعل نقيضه. ففي الوقت الذي كان فيه يدعو أنصاره إلى الخروج إلى الشوارع من أجل المطالبة بفك الارتباط بإيران "إيران برا برا"، كان يذهب إلى قم للاعتكاف بعد أن يعلن اعتزاله السياسة. لسنوات طويلة امتهن الصدر صناعة الفوضى، غير أن تلك الفوضى لم تخرج عن نطاق سيطرته. كان يعرف دائماً كيف ومتى وأين يلجمها. ولقد نجح عبر كل التجارب التي خاضها في ابتزاز النظام السياسي الذي نجح هو الآخر في عملية تحييده بل الاستفادة من خدماته في السيطرة على حشود المحرومين. وكما يبدو فإن الصدر وضع نقطة النهاية لمسيرته القلقة حين ألغى أخيراً تظاهرة مليونية كان قد دعا إليها لنصرة أهل غزة. "لقد انتهى زمن التظاهرات" قال. وهو ما يؤكد شعوره بأن زمنه السياسي قد انتهى بعدما تخطى النظام عتبة الخوف من الفوضى.