يبدو الاجتياح الجوي الإسرائيلي للبنان أقرب إلى حرب بقاء بين "حزب الله" وإسرائيل. فالعنف الفائق الذي تمارسه إسرائيل في المواجهة يدل على أن المواجهة سوف تذهب إلى آفاق بعيدة على مختلف المستويات، وبشكل تتقاطع عنده الاغتيالات والصواريخ والقنابل الارتجاجية من مختلف الأصناف والأعيرة. فنحن إزاء حرب متدرجة صعوداً وإن يكن "حزب الله" يحاول بكل الوسائل أن يمرر الموجة الأولى من الاجتياح الاسرائيلي بردود معتدلة في مداها وقوتها ونوعية الاستهداف.
وعلى العكس من الإسرائيليين يتضح أن الحزب يعمل وفق أجندة مختلفة، يقدر أن تكون متسقة مع المسارات الدبلوماسية الإيرانية الراهنة التي يسيرها الرئيس الجديد مسعود بزشكيان ومعه مستشاره الأقرب وموجهه محمد جواد ظريف الذي يلعب دور "المدبر" للعلاقات الخارجية الإيرانية بمنحاها الرسمي. وقد يكون "اجتهاد" الحزب المشار اليه في التهرب من توسيع الحرب مرده إلى أن الأجندة الإيرانية التي لحظت قبل أكثر من عام التورط في حرب "الإسناد" المنضبطة الإيقاع، قد عدلت بنودها لتواكب حملة العلاقات العامة التي يديرها الرئيس الإيراني الجديد برعاية المرشد علي خامنئي. فالهدف المطروح بشكل شبه علني تحدث عنه بزشكيان عندما أشار إلى أن إيران تحتاج وبسرعة إلى أكثر من 100 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية. ولهذا الغرض ذهب الرئيس الإيراني الى حد مغازلة الولايات المتحدة بالقول إن الإيرانيين هم أخوة للأميركيين! ومن اللافت جداً أن يتحدث كل من الرئيس الإيراني ومستشاره للعلاقات الخارجية عن حرب اسرائيل و"حزب الله" وكأن المسألة لا تخص إيران.
ولعل اللهجة التي يتناول فيها كل من بزشكيان وظريف حرب "حزب الله" ضد إسرائيل تشي بأن المطلوب من الدولة الرسمية، بعكس الدولة العميقة (الحرس الثوري)، أن تفتح باب المجتمع المالي الدولي، وأن تهادن قدر الإمكان في انتظار موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وربما في انتظار وصول المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس، اذا وصلت، الى البيت الأبيض. فبعد مقتل الرئيس السابق إبراهيم رئيسي بنهاية أيار (مايو) المنصرم في ظروف غامضة، حصلت استدارة حادة جداً في ما يتعلق بتوليفة السلطة الإيرانية الرسمية، حيث ما عاد مطلوباً أن تكون واجهة السلطة التنفيذية الخاضعة في النهاية للمرشد مطابقة للسلطة العميقة التي تتشكل من تحالف الجناح الديني المتشدد والمؤسسة الأمنية – العسكرية التي يعتبر "الحرس الثوري" عمادها الأساسي. والاستدارة أوصلت مسعود بزشكيان الى الرئاسة، ومعه محمد جواد ظريف الى الحلقة المفكرة، ومهمتهما اختراق المجتمع الدولي وبالتحديد الغرب، وإعادة ربط طهران بالأسواق المالية، واستخدام خطاب مختلف عن خطاب المؤسسة العسكرية أو الدينية المتشددة، وإظهار أن إيران دولة تسويات، وتذهب بعيداً فيها.
اذن، ثمة مراقبون يفسرون تمسك "حزب الله" بـ"حرب الاسناد" على أنه جزء من السياسة الإيرانية التوسعية التقليدية منذ أربعة عقود، وربط الساحات في ما بينها هو أولوية من أجل تدعيم النفوذ الإيراني. و"حزب الله" لا يتحرك سوى ضمن الضوابط الإيرانية وهو قدم حتى الآن مئات القتلى، وخسائر فادحة في كل المجالات على مذبح الأجندة الإيرانية. ولكن الأمور بدأت تفلت من يديه. والإسرائيلي ذاهب بعيداً في اندفاعه الحربي ضده. وقد يكون من المفيد إدراك مسألة في غاية الأهمية، ألا وهي أن "حزب الله" قد يكون في صدد خوض حرب بقاء عنيفة جداً، إذا ما ثبت أن قراراً ما اتخذ في مكان ما، ليس لتقليم أظافره فحسب، بل لزعزعة دوره ووظيفته، ثم تحجيمه بشكل عملي. من يراقب مسار الساعات الأولى للاجتياح الجوي الاسرائيلي وما بعدها قد يستنتج أن الحرب لن تقتصر على هدف إعادة سكان الشمال الإسرائيلي، ولا على إعادة تفعيل القرار 1701. بل يمكن أن تتعداهما الى محاولة قلب معادلة بقاء الحزب نفسه كذراع عسكرية – أمنية لطهران.