تطوّرت الأوضاع على الجبهة اللبنانية بشكل دراماتيكي خلال الأيام العشرة الأخيرة، في حدّة الهجمات الإسرائيلية ونوعيتها وأهدافها، فهذه الجبهة لم تعد ثانوية، بل تحولت إلى الجبهة الرئيسية لإسرائيل، بعد أن قرّرت تقليص وتيرة عملياتها في غزة، بعد قرابة عام من الحرب الشرسة والمركّزة التي دمّرت جزءاً كبيراً من البنية التحتية العسكرية لـ"حماس".
إذ إنّه بعد تعنّت قيادة الحركة الفلسطينية ورفضها شروط رئيس الوزراء الإسرائيلي لوقف إطلاق النار، وازدياد الضغوط الدولية والداخلية على تل أبيب للقبول بهدنة تؤدي إلى إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين في غزة، نقلت الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتشدّدة الحرب إلى جبهتها الشمالية. فإصرار أمين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله على شرط وقف إطلاق النار في غزة قبل الدخول في مفاوضات ديبلوماسية لوقف الحرب على جبهة جنوب لبنان، منح نتنياهو الفرصة لتحقيق غايته بإطالة الحرب وتوسيعها، من أجل البقاء في السلطة حتى الانتخابات التشريعية المقبلة في عام 2026.
أطلقت إسرائيل في 23 أيلول (سبتمبر) الجاري عملية "سهام الشمال"، بحملة جوية شرسة واسعة النطاق وصفتها "نيويورك تايمز" بأكثر الغارات الجوية كثافة في الحروب المعاصرة. واستهدفت الغارات بشكل أساسي المناطق التي تحتوي البيئة الحاضنة لـ"حزب الله". ولم تسمِّ إسرائيل هذه الحملة حرباً كما فعلت في غزة، فحدّتها وحجمها تجعلاها على نفس مستوى حرب عام 2006 التي تُعرف إسرائيلياً بـ "حرب لبنان الثانية". لكن إسرائيل جعلتها في هذه المرّة جزءاً من حرب غزة، بإضافة هدف إعادة مستوطني شمال إسرائيل لمنازلهم إلى مجموعة الأهداف التي كانت تبنتها عند انطلاق العمليات العسكرية في غزة في 8 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وعليه، حجم الهجوم الجوي الإسرائيلي على لبنان هو فعلياً أكبر من مجرد عملية، لكنه أصغر من حرب.
سبقت الحملة الجوية سلسلة عمليات هزّت "حزب الله" داخلياً، وأظهرت اختراقاً استخباراتياً أمنياً إسرائيلياً غير مسبوق لصفوفه، في الحجم والشكل. تفجير أجهزة "البيجر" والاتصال اللاسلكي في يومين متتالين ضرب جزءاً مهمّاً من شبكة اتصال الحزب، وأثّر في منظومة القيادة والسيطرة والاتصال التي تحرّك عملياته. كما أدّى ذلك إلى فقدان الحزب نحو 2000 من عناصره الذين قضوا أو جرحوا بالتفجيرات. تلت ذلك غارة قضت على جميع قادة "فرقة الرضوان" والقائد العسكري الأعلى لـ"حزب الله" إبراهيم عقيل، الذي خَلَف فؤاد شكر بعد اغتياله في 30 تموز (يوليو) المنصرم. وعلى مدى السنة الماضية، اغتالت إسرائيل بضربات دقيقة ما يقارب 400 من كوادر الحزب وقياداته. كل هذا جهّز الأرضية للمواجهة مع "حزب الله"، والتي أجّلتها القيادة العسكرية الإسرائيلية إلى حين تراجع وتيرة عملياتها في غزة.
كان عنوان حرب 2006 الإخفاق الاستخباراتي الإسرائيلي، إذ كان هناك جهل واستخفاف بقدرات "حزب الله"، وهو ما دفعت ثمنه غالياً القوات الإسرائيلية في ساحة المواجهة. إنما هذه المرّة، قامت إسرائيل بالتحضير جيداً لتحقيق تفوّق استخباراتي منحها القدرة على توجيه ضربات متتالية وغير متوقعة، فمن الواضح أنها تملك معلومات دقيقة وعلى مستويات عدة عن الحزب، مكّنتها من تحقيق هذا العدد من الإنجازات، والتحرك بثقة في حملة جوية ضدّ مخازن الأسلحة ومنصات الصواريخ ومراكز القيادة والسيطرة للحزب. وظهر ذلك جلياً في عشرات الصور والفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي. ولزيادة الضغط الداخلي على الحزب، عمدت إسرائيل إلى قصف محيط المدن والبلدات في جنوب لبنان والبقاع، لإجبار السكان على الفرار ومضاعفة مشكلة النازحين في بلد يعاني أزمات اقتصادية واجتماعية، وانقساماً سياسياً حاداً.
وتلمّح إسرائيل إلى احتمال شنّ حملة برية لدفع مقاتلي "حزب الله" إلى شمال نهر الليطاني، إن لم تنجح الحملة الجوية بإقناعه بفك الارتباط بغزة، وإعطاء الجهود الديبلوماسية فرصة لتحقيق أهداف تل أبيب. إلّا أن خبراء من داخل إسرائيل وخارجها يشككون في ماهية عملية برّية، فإسرائيل تستطيع أن تستمر بحملة جوية مدمّرة على "حزب الله" وتصدّ بمنظومات الدفاع الجوي المتقدمة جزءاً كبيراً من رشقاته الصاروخية، التي تُلحق أضراراً وخسائر بشرية قليلة جداً ومحدودة، ما يحافظ على الدعم الداخلي لاستمرار الحرب. إلّا أن عملية برّية نحو الليطاني ستكلف القوات الإسرائيلية خسائر كبيرة، في العديد وفي العتاد.
لذلك، فإن القيادة الإسرائيلية قد تحقق نتائج أكبر تكتيكياً واستراتيجياً إذا ركّزت على ضربات جوية لتحقيق 4 أهداف رئيسية: أولاً، تقليص قدرات الحزب عسكرياً بشكل كبير، نوعاً وكماً؛ ثانياً، هزّ الثقة بين الحزب وبيئته الحاضنة من خلال إظهاره عاجزاً عن حمايتها عسكرياً وأمنياً؛ ثالثاً، ضرب معنويات مقاتلي الحزب وتحطيم صورته داخلياً وإقليمياً بوصفه قوةً لا تُقهر قادرة على ردع إسرائيل وهزيمتها؛ ورابعاً، إحداث خسائر مادية هائلة مع أزمة نزوح تؤدي إلى توسيع الشرخ السياسي المذهبي داخل لبنان بين قوى الممانعة والمعارضة.
ويعتقد العديد من الخبراء أن ما ظهر من خرق استخباراتي إسرائيلي في صفوف الحزب يؤدي إلى استنتاج واحد: القيادة العسكرية الإسرائيلية تعلم على الأرجح مواقع الأنفاق وتفاصيل ما يملكه الحزب من صواريخ وعتاد وأماكن تواجدها في لبنان وسوريا. وقد تمكنت من إرسال فرقة كوماندوس دمّرت بالكامل منشأة مصياف قرب حماة، التي كانت تنتج صواريخ من العيار الثقيل للحزب، مثل "فادي-1" و"فادي-2" وما شابه. كما أن خطوط إمداد الحزب من سوريا والعراق مكشوفة، وتقوم المقاتلات الإسرائيلية باستهدافها.
عليه، فإن "حزب الله" يواجه واقعاً صعباً، حيث تتقلّص قدراته الصاروخية وتُغتال قياداته يومياً نتيجة الضربات الإسرائيلية. وقد يستمر الوضع على هذا الحال أسابيع، وربما أشهراً. وإذا التزم نتنياهو تعهده للبيت الأبيض بأن قواته لن تضرب البنية التحتية اللبنانية، ولن تشنّ عملية برية، فهذه الغارات ستستمر من دون أي ضغوط حقيقية من واشنطن وحتى العواصم الغربية لوقفها قبل أن يوافق "حزب الله" على العروض التي قدّمها آموس هوكشتين لإنهاء الحرب. ومع تردّد إيران في التدخّل عسكرياً لمساندة "حزب الله"، وسعيها إلى إعطاء زخم للمفاوضات مع واشنطن، فإن الحزب سيبقى وحيداً أمام خيار - قد يكون بيد طهران في نهاية المطاف - وهو الدخول في حل ديبلوماسي للحفاظ على ما تبقّى من قدراته العسكرية، وعلى وجود مؤثر له على الساحة اللبنانية، أو فقدان ذلك فداءً لغزة والقضية الفلسطينية، مع ما يعنيه ذلك من دمار ومعاناة للبنان وشعبه.