منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، تاريخ إعلان إسرائيل الحرب على حركة "حماس" في قطاع غزة، في ضوء هجومها المذهل على الجنوب، احتلت الإشكالية الأخلاقية موقعاً متقدماً في الاهتمامات، ولكنّ هذه الإشكالية تتعمق الآن مع بدء الجيش الإسرائيلي تنفيذ المرحلة الأولى من عملية "سهام الشمال" ضد "حزب الله" على امتداد وجوده في لبنان.
الإشكالية في المسألة اللبنانية أكثر تعقيداً منها في المسألة الفلسطينية. في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، لا اختلاف على المظلومية والأهداف. الاختلاف يتمحور حول الأسلوب. هناك من يعتقد أنّ نقل "حماس" وسائر التنظيمات الجهادية، النضال المستمر من المستوى الشعبي والسياسي والدبلوماسي إلى المستوى العسكري بعد ربطه بمحور إيراني لديه إشكالات كثيرة مع الدول الشقيقة والصديقة، هو خطر على القضية وليس مساعداً لها. وفي المقابل، هناك من يعتقد أنّ الحال كما كانت عليه، قبل السابع من تشرين الأول، وضعت القضية الفلسطينية على الرف. وبين هؤلاء من يرى أنّ الكلفة البشرية والمادية الهائلة، لو وضعت في سياق شبيه بـ"انتفاضة الحجارة"، لكانت قد أنتجت ما يذهل العالم، تماماً كما حصل قبل أن تدخل التنظيمات الإسلامية في وقت مضى على الخط، وتحوّل الحجارة وحامليها إلى عبوات ناسفة، وتسمح بإعطاء صورة مزوّرة عن الفلسطينيين، كما لو كانوا مجرد جماعة "إرهابية"!
إذاً، الإشكالية الفلسطينية لها مسار نقاشي مختلف لا يجعل التموضع معقداً من الناحية الأخلاقية. هذا الأمر، لا ينطبق على المسألة اللبنانية.
في لبنان، هناك معطيات موضوعية تضع إسرائيل في مرتبة متأخرة في قائمة المشكلات الوجودية التي يعانيها اللبنانيون. الصراع الداخلي هو الأساس، والمشكلات الناجمة عن الدول التي يفترض بها أن تكون شقيقة هي الأهم، كما هي الحال مع النظام السوري، والكلفة السياسية على الاقتصاد والمالية والمجتمع تعود إلى عاملين، أوّلهما داخلي يتمحور حول الفساد والزبائنية، وثانيهما ربط لبنان، من خلال جماعة مسلّحة ومتأهبة، بالأجندة الإيرانية. وفي كلتا الحالتين يلعب "حزب الله" الدور المحوري.
المشكلات العالقة مع إسرائيل، لا تمنع في الواقع قيام الدولة. ولقد بيّنت التطورات المتلاحقة منذ عام 2000 أنّ لها حلولاً مختلفة. في عام 2000 انسحبت إسرائيل من لبنان. بقيت في مزارع شبعا. الأمم المتحدة لم تجد أنّ مطالبة لبنان باستعادتها تندرج في إطار تنفيذ القرار 425، لأنّ سوريا ضمّتها إليها قبل حرب عام 1967. كان المطلب الدائم أن تعترف سوريا، بوثيقة رسمية، بلبنانية هذه المزارع، حتى يبدأ الحل بالمفاوضات. وبعد حرب تموز 2006، كان الحل المتفق عليه بين لبنان وإسرائيل مفصلاً في القرار 1701 الذي ينفذه الجيش اللبناني المدعوم من قوات اليونيفيل. وفي حمأة التنقيب عن النفط، توصل لبنان وإسرائيل، بوساطة أميركية، إلى ترسيم الحدود البحرية.
حصل كل ذلك، من دون أن يضطر لبنان إلى توقيع أي معاهدة سلم مع إسرائيل. تبقى إسرائيل دولة عدوة إلى أن يحل السلام العادل والشامل، وفق مبادرات جامعة الدول العربية. وهذا يعني أنّ اللبنانيين، بكل ما يختص بإسرائيل، يملكون الحرية الدستورية والقانونية بأن يكونوا رأس حربة في المواجهة الإعلامية والثقافية والفكرية وغيرها ضد إسرائيل. الصراع العسكري، وفق مقتضيات تعهدات الدولة اللبنانية، هو المحظور، إلّا إذا كان في إطار الدفاع عن السيادة الوطنية.
وبفعل هذه الحقائق، التفت اللبنانيون إلى بناء دولتهم. في هذا المسار، وجدت فئات واسعة من اللبنانيين أنّ "حزب الله" يراكم العثرات، ولا يتردد، عندما تقتضي مصلحته، في استعمال فائض القوة التي وفّرها له سلاحه، ضد خصومه المحليين. حصل ذلك مرات عدة. ولم يكن من قبيل الافتراء، إلقاء مسؤولية عمليات اغتيال نوعية حصلت في البلاد على هذا الحزب الذي حوّل مفهوم المقاومة إلى أداة للتدخل في كل تفاصيل الحياة السياسية وفي مشكلات الإقليم، حتى جرّ ويلات على لبنان في علاقاته الخارجية.
وعندما اندلعت حرب "طوفان الأقصى" وقرر "حزب الله" بقرار منفرد منه، ومن دون مراجعة أحد خارج مرجعيته الإيرانية، الدخول في الحرب، من موقع "المهدد" بحرب شاملة، بداية ومن موقع "المؤازرة" لاحقاً، أصيب الجميع في لبنان، من دون استثناء، بصدمة كبيرة. بالنسبة إليهم، يمكن دعم غزة والحقوق الفلسطينية، بكل الوسائل السلمية الممكنة، ولكن مؤازرتها عسكرياً، في ظل وقائع داخلية مأسوية، سوف تقضي على محاولات الخروج من جحيم لم يسبق أن عرف مثله لبنان في تاريخه.
لم يكتفِ "حزب الله" برمي المناشدات وراءه، بل ذهب إلى مستوى تطويع المجموعات السياسية والقيادات الوطنية، مذكراً إياها بما يملكه من وسائل الترغيب والترهيب. ومن لم يخضع له تمّت شيطنته. أصبح كل من يقف في وجه توريط لبنان في حرب "طوفان الأقصى" ضمن مجموعة أطلق عليها اسم "صهاينة الداخل".
وتوالى اضطهاد "حزب الله" لجميع من يحذر من إمكان انتقال المناوشات الحدودية إلى حرب طاحنة. سخر "حزب الله" من هؤلاء، وتولى الأمين العام للحزب حسن نصر الله شخصياً التهكم عليهم حيناً، و"شيطنتهم" أحياناً. كان يقدم سردية بأنّ إسرائيل أذكى من أن ترتكب "حماقة" التورط في حرب ضده في لبنان، لأنّها في هذه الحالة، سوف تكتب نهايتها بـ... غبائها!
أصرّ المعارضون على أن ّ "حزب الله" يستكبر، فهو الوحيد الذي لا يسمع طبول الحرب التي تقرع. وأصرّ "حزب الله" على اعتبار هؤلاء "صهاينة" وهدفهم ترهيب بيئته الحاضنة. هذه البيئة التي دعاها نصر الله، بعد إعلان انتهاء الرد على اغتيال القائد العسكري فؤاد شكر، للعودة إلى منازلها التي تركتها خوفاً من الرد الإسرائيلي على رد "حزب الله".
وأتت ساعة الحسم. نصر الله كان مخطئاً. "صهاينة الداخل" أصابوا.
في ظل هذه الصورة، يتم استدعاء العرب والمسلمين عموماً واللبنانيين خصوصاً، إلى مؤازرة "حزب الله" على أساس أنّه في حرب مع العدو.
كثيرون يعانون إشكالية، حيث يتصارع العقل مع العاطفة.
العاطفة لا يمكن أن تقبل بهذا المستوى من القتل والدمار والنزوح، ولكن العقل مقتنع بأنّ "حزب الله" يريد أن يورط الجميع في ما هو يتدحرج إليه من دون أن يقدم لهم أي تصوّر شامل وواعد، يمكن أن يموتوا من أجله. هو يدعوهم فقط إلى تشكيل مظلة وطنية شاملة لحرب سبق أن رفضوها وحذروا منها، في مقابل أن يرفعهم من لائحة "الصهاينة"، لا أكثر ولا أقل!
بالنسبة إلى كثيرين، تقديم الغطاء الوطني لـ"حزب الله" في هذه الحرب، هو إعادة تأهيله وطنياً، من أجل أن يستمر، بقوة أكبر، في نهجه الذي دفعوا أثمانه غالياً، على كل المستويات.
وعليه، يعتقد هؤلاء أنّ الاستمرار في نهج تحميل "حزب الله" مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع العسكرية في البلاد، بالتزامن مع توفير أكبر احتضان ممكن للنازحين من بلداتهم هو الحل المعقول في هذه المرحلة.
بالنسبة إليهم، لن يغيّر اندماجهم في ما يريده "حزب الله" المعادلة الحربية. سوف يعمم كوارثها لا أكثر ولا أقل. فـ"حزب الله" يريد دعم الداخل، حتى لا تؤثر الحرب التي يخوضها، وهي قابلة للتسوية، كل لحظة، على هالته الداخلية. لا يريد لاحقاً تصويره، كما لو كان جاذب الموت والدمار والتهجير والتفقير للبنانيين!
وحده خروج "حزب الله" على اللبنانيين بمشروع يستحق التضحية يمكنه أن يقلب المعايير. دون ذلك، فالواجب الأخلاقي هو نحو النازحين، لا أكثر ولا أقل!