في كل صراع هناك مواجهة وهروب وتجنب. "المواجهة" قد تكون اضطرارية أو شجاعة. ومن "الهروب" ما هو تكتيكي. أما "تجنب" الصراع فقد يكون أحد أشكال الحكمة. في ميادين المعارك المهنية يؤجل أصحاب القرار المواجهة مع مسؤول مزعج عبر تهميشه، أو تكليفه ما لا يطيق، أو إقحامه في أعمال لا يجيدها تجنباً لمواجهته بالاستقالة... فلربما يستقيل بمحض إرادته.
في مجتمعاتنا العربية، نحاول تجنب الصراع لاعتبارات اجتماعية. وقد شهدتُ حالات عدة اضطرت فيها الإدارة العليا لتحمل فئة من الناس تجنباً لمواجهتهم. مواجهة المسؤول المقصر في نظرها أشبه بـ"نكش" عش الدبابير، أضرارها أكبر من نفعها. ولذا يمنح غير المرغوب فيهم فرصة المغادرة طواعية وبهدوء.
من أسباب تجنب الصراع تفادي مشاعر عدم الارتياح عند المواجهة. قد تكون الأسباب نفسية أو ضعفاً في متخذ القرار، أو تعود إلى تحديات الطفولة المريرة. ولذلك يلجأ البعض إلى طرق بديلة لإدارة الصراع منها "التسوية" عبر إيجاد حل مرض للطرفين مع شيء من الحزم. أو "التعاون" مع الإبقاء على مسألة الحزم.
في عالم التجارة، دبت خلافات حادة بين "سامسونغ" و"آبل" لكنهما اختارتا التسوية خارج أسوار المحاكم تفادياً للدخول في دهاليز الإطالة لسنوات عديدة. وكذلك سلسلة مقاهي "ستاربكس" تتبنى سياسة تغيير مهمات بعض العاملين إلى فروع أخرى تجنباً للصراع أو التسريح القسري وللحفاظ على سمعتها. واليابانيون كعادتهم في التميز يستخدمون مبدأ "كايزن" في التحسين المستمر عبر الاستماع الى كل الأطراف المتنازعة في حوار مفتوح بهدف معالجة منهجية الخلل. ولذلك أضحت الثقافة اليابانية مضرباً للمثل في بقاء الموظفين لسنوات طوال في مؤسساتهم.
على الصعيد السياسي، شهدنا جميعاً كيف انفصلت بريطانيا بسلاسة عن الاتحاد الأوروبي، ولم يشن الاتحاد حرباً اقتصادية ضد حليفته القديمة، بل مد جسور التواصل عبر سياسة تجنب الصراع.
في حالات معينة، قد يساء فهم تجنب الصراع باعتباره ضعفاً، ولذلك يضطر أصحاب القرار إلى "الضرب بيد من حديد" ليدفع المتمرد ثمن سلوكه، وليكون عبرة لمن يعتبر. ويبقى تجنب الصراع تكتيكاً مرحلياً حكيماً يمكن اللجوء إليه لتدور رحى العمل بسلاسة وهدوء.