في عين العاصفة، يصبح التأمّل في الحرب مستحيلاً. مع ذلك، يجب أن نفكر في تجاوزها. وهو ما قام به قبل سنوات دان رايتر، في عمله البارع "كيف تنتهي الحروب"، جامعاً بين التحليل التاريخي الدقيق والأطر النظرية لاستكشاف السؤال الحاسم حول سبب انتهاء بعض الحروب، بينما تستمر حروب أخرى في صراع حتى يحقق أحد الجانبين النصر الصريح.
يؤطّر رايتر تحقيقه حول اقتراحين نظريين مركزيين: "نظرية إنهاء الحرب" و"مشكلة الالتزام". تشكّل هذه المفاهيم العمود الفقري لحجة الكتاب، ويضع تقديمها في الفصل الأول أساساً متيناً لما يلي.
إن استخدام رايتر لدراسات الحالة التاريخية يشكّل عنصراً أساسياً في قوة الإقناع التي يتمتع بها الكتاب. فهو يختار بعناية الصراعات التي توضح الآليات الرئيسية وراء إنهاء الحروب، بما في ذلك الحرب الأهلية الأميركية، والحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية، وحرب الخليج، وغيرها. وقد تمّ تحليل كل حالة بدقة، كما قدّم معلومات خلفية شاملة لضمان فهم القراء للسياق الذي اندلعت فيه كل حرب.
لكن أحد أقوى فصول الكتاب هو تحليل الحرب العالمية الأولى، حيث يستكشف سبب استمرار الحرب لفترة طويلة على الرغم من التكاليف الهائلة التي تكبّدتها جميع الأطراف. ويزعم أن مزيجاً من سوء الفهم، خصوصاً في ما يتعلق بالعزيمة العسكرية والسياسية للخصوم، والعوامل السياسية الداخلية، لعب دوراً رئيسياً في إطالة أمد الصراع. ويتعمق رايتر في الاتصالات الديبلوماسية وتقارير ساحة المعركة والقرارات السياسية لدعم ادعاءاته، ما يدل على اتقان مثير للإعجاب لكل من المواد التاريخية والإطار النظري الذي يستخدمه. إن قدرة رايتر على نسج الأدلة التاريخية في حجته النظرية تشكّل نقطة قوة أخرى. فهو لا يستخدم التاريخ كمثال فحسب، بل كجزء لا يتجزأ من تحليله. على سبيل المثال، في مناقشة مشكلة الالتزام - حيث يخشى أحد الطرفين ألّا يلتزم الطرف الآخر باتفاقية في المستقبل - ينظر رايتر إلى مفاوضات الهدنة في الحرب الكورية، ويشرح كيف أثّرت المخاوف بشأن العدوان الكوري الشمالي في المستقبل على عملية صنع القرار في الولايات المتحدة، موضحاً كيف تتقاطع النظرية والممارسة.
إن أحد أهم مساهمات "كيف تنتهي الحروب" هو ابتكاره النظري. فتطوير رايتر نظرية الحرب ومشكلة الالتزام يضيف بعداً جديداً إلى الأدبيات القائمة حول إنهاء الحرب. تساعد هذه النظريات في تفسير سبب انتهاء بعض الحروب بتسويات تفاوضية، في حين تنتهي حروب أخرى بانتصار كامل لجانب واحد. يزعم رايتر أن الحروب تستمر لأن القادة غالباً ما يكونون غير متأكّدين من قدرات أو عزم خصمهم. يؤدي هذا الشك إلى سوء التقدير، ما يؤدي إلى إطالة أمد الصراع. وعلى النقيض من ذلك، عندما يحصل المقاتلون على معلومات أكثر دقة - غالباً من خلال مواجهات في ساحة المعركة - فإنهم يصبحون أكثر قدرة على التفاوض من أجل السلام. من ناحية أخرى، تتناول مشكلة الالتزام قضية الثقة بين المتحاربين. فحتى إذا كان كل من الطرفين على استعداد للتفاوض، فقد يخشى أحد الطرفين أن يتراجع الطرف الآخر عن الاتفاق في المستقبل، ما يؤدي إلى انهيار المفاوضات. والواقع أن تطبيق رايتر لهذه النظرية على الصراعات التاريخية مفيد للغاية، فهو يوفر عدسة جديدة يمكن من خلالها النظر إلى إنهاء الحرب.
لكن الحرب ليست علماً. لكل حربٍ قوانينها الخاصة. وبقدر ما تكون فيه صراع الإرادات، وتدمير الحياة، وتفكك الانسجام، تنشأ مفارقة، هل يمكن الفرد أن يجد السكينة وسط العاصفة للتأمل فيها، والذهاب في رحلة إلى الداخل تتجاوز العنف والدمار المستكشفين في الخارج؟ يصبح التأمل، في هذا السياق، أكثر من مجرد ممارسة؛ يصبح شكلاً من أشكال البقاء، وعملاً جذرياً للمقاومة ضدّ الفوضى التي تسعى إلى ابتلاع كل من الجسد والروح.
إن الحرب لا تمزق العالم المادي فحسب، بل تمزق أيضاً العالم الداخلي لمن يعيشونها. فالفرد في الحرب يواجه الموت الفوري، وتفكك الحياة الطبيعية، وفقدان اليقين الأخلاقي. كما تعمل على تفتيت الذات، وقطع الاتصال بالفهم. وفي هذه الحالة المحطمة، ينقسم الوقت إلى لحظات من البقاء الخام، ما يترك مساحة ضئيلة للتأمل أو الاستقرار الداخلي. في مثل هذا السياق، قد يبدو التأمل مستحيلاً، فكيف يستطيع المرء أن يتأمل عندما يحترق العالم، وعندما تكون الأرواح في خطر، وعندما يكون المستقبل غير مؤكّد؟ لكن، ربما يصبح التأمل في الحرب على وجه التحديد أكثر أهمية. ففي الحرب يواجه الفرد التهديد الوجودي النهائي، ويصبح العقل، المجهد إلى أقصى حدوده، معرّضاً لخطر الاستنزاف بالخوف أو الغضب أو الخدر. وبالتالي، يصبح التأمل أداة لإعادة تجميع الذات، واستعادة الشعور بالسلام في عالم مجزأ. في الحرب، كثيراً ما ينضغط الوقت في اللحظة، حيث تُتخذ قرارات الحياة والموت في ثوانٍ، ويصبح كل يوم معركة من أجل البقاء. والتأمل، من خلال تركيز العقل على اللحظة الحالية، يمتد بهذه اللحظة إلى الأبد. فالنفس الواحد، الذي نشعر به بعمق، يحتوي على كون كامل.
ومن خلال هذا النفس، يمكن المرء أن يجد ملجأً، ليس بالهروب من العالم، لكن من خلال السكنى الكاملة في الحاضر. وهذه هي مفارقة التأمل في الحرب، فمن خلال قبول الفوضى المحيطة بالنفس، يمكن المرء أن يجد السلام في نفسه على الأقل.
وهنا لا بدّ من استحضار أندريه مالرو، الذي خبر الحرب وشارك فيها. لقد كان شاهداً على أحلك لحظات البشرية، فيلسوفاً يقف على حافة الهاوية، يحدّق فيها بعينين لا ترمشان. كانت الحرب بالنسبة إلى مالرو أكثر من مجرد سياسة. فقد كانت، بطريقتها القاتمة، شكلاً من أشكال الكشف. وكان الكاتب في داخله يتصارع باستمرار مع التناقضات. فقد كانت بمثابة إبادة للبشرية، وفي الوقت نفسه المسرح الذي تكشفت عليه أعظم حقائق البشرية.
وفي الوحشية والمعاناة، كان بوسع المرء أن يرى الخطوط العريضة الصارخة لما كان مهماً حقاً: الشجاعة والكرامة والأخوة. وكانت هذه هي العناصر التي برزت، هشة لكنها لامعة، من بين الحطام. لم تكن الحرب بالنسبة إلى مالرو مجرد دمار، ففي الحرب واجه أعمق حقائق الوجود، حيث لم يرَ فقط هشاشة الحياة بل وقوة الروح البشرية. وفي الحرب، لم يجد الإجابات، بل السؤال الذي ظل يحركه طيلة حياته: ماذا يعني أن نعيش بكرامة وشجاعة ومعنى في عالم لا يقدّم لنا أياً من هذه الأشياء مجاناً؟