كان اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام أشبه بمسرح مخصص لبرنامج "ستاند آب" Stand-up، الجميع يريد أن يكسب تصفيق الجمهور، بإضحاكه أو بإفزاعه! وفي ما يخص منطقتنا، بينما كان الشعبان الفلسطيني واللبناني يهرولان إلى عربات الإسعاف ونعوش الموتى، كان يقف على منصة الأمم المتحدة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وكلاهما جاء ليحطم صورة الآخر. ويبدو أن إيران قد تفوقت على إسرائيل هذه المرة!
الشّرق الأوسط الجديد
لم تكن كلمة نتنياهو إعلان انتصار كما صوّر لنفسه، بل إعلان فشل إسرائيلي، لوجود تحديات جمة لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي رسمه من خيال الدولة التوراتية، فقد ظهر وهو يرفع خريطة تقسم ضفتي الشرق الأوسط عند منطقة الخليج إلى نصفين وفق مصالح الدولة التوراتية، واصفاً منطقة إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن بأهل النقمة (ملعونون)، ومنطقة الخليج العربي ومعها مصر والسودان والهند بأهل النعمة (مباركون)، وأنه يجب على العالم أن يختار بينهما.
كانت إشارة اعتراف من نتنياهو بإفشال إيران خريطته التي حملها معه العام الماضي إلى الأمم المتحدة، إذ كان يشير آنذاك إلى الدول التي عقدت اتفاق سلام مع إسرائيل، بخاصة بعد الاتفاق الإبراهيمي الذي حصل في عهد ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
لكن ما لا يريد أن يعترف به نتنياهو أن دول السلام مع إسرائيل ضجرت من سلوكه الذي لا يعبر عن وجود أي خطط صادقة لمشروع يعمل لمصلحة المنطقة كافة، بل لا تزال دولته تسعى لرسم خريطة "على مزاجها"، وإلا كان يحترم رغبة الدول العربية ويضع مكاناً للدولة الفلسطينية في خريطته التي يحملها كل مرة.
لذلك غادرت وفود دول منطقة "أهل النعمة" قاعة الأمم المتحدة مع كلمته، ليكون ذلك دليلاً على أن إسرائيل تعيش في أزمة عقلها. وقد سجلت إيران نقطة عليها، إذ لم يغادر العرب كلمة الرئيس الإيراني. بينما غادر الوفد السعودي القاعة ونتنياهو يتحدث عن نعمة السلام مع بلاده، لكنه تذرع بأن إيران تحاول إغراق هذا السلام.
رؤية أحادية
لكن هل انتبه هذا العقل الأحادي الرؤية إلى أن المملكة السعودية لا تلتفت للرواية التوراتية حول الدولة العبرية، وتشترط إقامة دولة فلسطينية بجانب إسرائيل، وإلا فقد هذا السلام معناه؟ فالمنطقة تبحث عن الاستقرار والأمان من أجل التفرغ للتنمية والاقتصاد، وليس من أجل أن تكسب ود دولته. وأن هذا لن يتحقق لمجرد أن إسرائيل قامت باغتيال قادة المقاومة أو أنها تراقب تحركات الفصائل المسلحة، فهناك قضية لا تموت بموت المدافعين عنها.
كان نتنياهو من خلال خريطته التي أحضرها معه، يُخير العالم إما أن يكون تحت رحمة إيران أو رحمة إسرائيل، أي إما يعمل الممر التجاري الدولي الجنوبي عبر البحر الأحمر تحت رحمة إيران، وإما أن يعمل الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC) تحت رحمة إسرائيل.
لكن هذا العقل الأحادي لا يدرك أن الطريق نحو أوروبا في أقصر طريق بري-بحري، يمكن أن يمر شمالاً عبر إيران أو تركيا، وجنوباً عبر مصر أو سوريا، وأن وضع ميناء حيفا على خريطة الممرات الاقتصادية الجديدة بين آسيا وأوروبا، هدفه تشكيل تصور اقتصادي يضمن السلام للمنطقة، وليس حبسها في التصور التوراتي للسلام!
لم تأت دول منطقة "النعمة" إلى الأمم المتحدة لتستمع إلى رئيس وزراء إسرائيل وهو يُفزعها ويقول "لا مكان في إيران لا تستطيع إسرائيل الوصول إليه"، فهذه الدول لم تعقد السلام لتتحول إلى طلقة في بندقية نتنياهو!
إيران تخرج من العزلة
كان خطاب الرئيس الإيراني متقدماً عن خطاب نتنياهو، فبينما كان الأخير يحذر العالم من نووي إيران وإمكان إنتاجها السلاح النووي، كانت طهران قد فتحت خط اتصالات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لحل القضايا الخلافية معها، ووقف بزشكيان يؤكد استعداد بلاده للعودة إلى الاتفاق النووي. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، وقال إن "إيران مستعدة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً"، ليظهر أن إسرائيل هي التي لا تريد السلام. وعاد إلى وطنه معه مئات القطع الأثرية المستعادة من الولايات المتحدة! كما بقي وزير خارجيته عباس عراقجي لفترة أطول يعقد اللقاءات مع المسؤولين الإقليميين والغربيين والدوليين.
وإذا صحت الرواية الإيرانية بأن ولي عهد الكويت، الشيخ صباح خالد الحمد الصباح، قدم دعوة للرئيس الإيراني إلى المشاركة في قمة مجلس التعاون الخليجي، وأخبره "نحن نعرف مصلحة المنطقة أكثر من غيرنا"، فهذا يعني أن إيران قد تقدمت على إسرائيل منذ مصالحتها مع السعودية آذار (مارس) 2023م، بعد إعلانها سياسة "الأولوية لدول الجوار".
وإذا تمت مشاركة الرئيس الإيراني، فستكون استكمالاً لمشاركة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في قمة الدوحة، في كانون الأول (ديسمبر) 2007، إذ دعا آنذاك إلى عقد اتفاق أمنى مشترك وإنشاء مؤسسات أمنية للتعاون بين ضفتي الخليج.
وما لا يدركه نتنياهو، أن دول أهل "النعمة" غير مشغولة بخريطته، فدول الخليج ومصر والأردن لديها اتفاقيات ومصالح اقتصادية استراتيجية مع مَن سماهم "أهل النقمة"، على سبيل المثال، الاستثمار في ممر شمال-جنوب في إيران وممر طريق التنمية في العراق والشام الجديد بين مصر والأردن والعراق.
لا نقول إن إيران رفعت يدها عن المنطقة، لكن رغبتها في الخروج من عزلتها، جعلتها تبدو أكثر عقلانية، فهي لا تنجرف نحو الفخ الإسرائيلي، بينما الرؤية الشعبوية تنتظر منها أن تصفع إسرائيل وكأن الأمر مباراة مصارعة! لكنها اختارت أن تقايض العالم، إما أن تخرجوني من عزلتي وإلا فسأعلنها حرباً مقدسة، أرسل فيها المجاهدين من أصقاع الأرض كافة باسم تحرير الأرض المقدسة.
وأيضاً، بينما الخطة الأميركية-الفرنسية تطرح فك الارتباط بين جبهة غزة وجبهة جنوب لبنان، من خلال هدنة ومفاوضات متزامنة، وهي خطة لم تخلُ من مشاركة إيران التي اجتمعت مع الجانب الفرنسي، كانت إسرائيل أكثر غباءً بالمضي نحو مخاطرة إشعال حرب في المنطقة باغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، وذلك بينما نتنياهو يلقي خطابه في الأمم المتحدة! حتى أن وزير الخارجية الإيرانية قال: "من الغباء أن ترغب إسرائيل في إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول العربية بينما هي منشغلة بقتل الشعب اللبناني"!