النهار

إيران "الحسنيّة" وأذرعها "الحسينيّة"
المصدر: النهار العربي
هي حتماً تريد الانتقام ليس فقط للحادثه الأخيرة بل لحوادث كثيرة من قاسم سليماني ومحسن فخري زادة وآخرين، لكنها عملياً تتجنب الانتحار حتى لو ظهرت بموقع الضعف
إيران "الحسنيّة" وأذرعها "الحسينيّة"
لافتة "يا حسن" في مكان تقبّل التعازي بالعالم النووي الإيراني فخري زادة الذي اغتيل في طهران عام 2020.
A+   A-
 
مصطفى فحص *

تتجه الأنظار نحو طهران بانتظار ردها على الاعتداء الإسرائيلي ضد قنصليتها في دمشق ومقتل سبع شخصيات، من بينهم قادة عسكريون من فيلق القدس، فهذه الضربة تختلف عن سابقاتها، ومنها تلك التي قتلت القائد العسكري في الحرس الثوري رضي موسوي في ضواحي دمشق قبل أشهر، بأنها جرت ضد مصالح إيرانية سيادية في الخارج، ما يعني أن تل أبيب قد انتقلت إلى المواجهة المباشرة مع طهران، وهذا ما يفرض على الأخيرة أن ترد مباشرةً، أي أن تقوم علناً وليس عبر أذرعها بضرب مصالح إسرائيل في الخارج أو قصف أهداف إسرائيلية داخل فلسطين المحتلة.

هذه المعادلة، وبعيداً عن الاستعراض الكلامي الإيراني بالتهديد والوعيد، تضع النظام أمام معضلة استراتيجية، فالردّ مغامرة وعدمه مقامرة، لذلك يصعب التكهن في حتمية الرد الإيراني وشكله. هي حتماً تريد الانتقام ليس فقط للحادثه الأخيرة بل لحوادث كثيرة من قاسم سليماني ومحسن فخري زادة وآخرين، لكنها عملياً تتجنب الانتحار حتى لو ظهرت بموقع الضعف، وهي مستعدة لتجرع هذه الهزائم كما تجرعت سابقاً كأس السم وتأمين غطاء عقائدي لمعادلتها الجوهرية: الصبر الاستراتيجي.

كان لافتاً للعارفين في طبيعة النظام الإيراني وأسلوبه في إيصال الرسائل المباشرة وغير المباشرة، اللافتة التي وُضعت في قاعة سجّي فيها جثمان العالم النووي فخري زاده أثناء إلقاء قادة النظام النظرة الأخيرة عليه، والتي كُتب فيها "يا حسن" نسبة إلى الإمام الحسن بن علي الذي صالح معاوية بن أبي سفيان وتنازل له عن الحكم درءاً للفتنة بين المسلمين كما جاء في الموروثات الشيعية، والتي كان يحاول أتباع المنهج الشيعي الثوري القفز فوقها واعتبارها محطة ظرفية في هذا الموروث فرضتها ضرورات مرحلية، ولكن في الظاهر الإيراني كانت اللافتة إشارة إلى أن الباطن بات يدرك ظروفه الداخلية وضروراته الخارجية وهو مستعد للصلح مع من يعتبره باطلاً إذا كانت أولويته حفظ نظامه ونفوذه، وهي الإشارة التي التقطتها واشنطن منذ قتلها قاسم سليماني وشجعت طهران على اللجوء إلى التفاوض والصلح ومكاسبهما وتجنب المواجهة لأنها مكلفة جداً لها. وهذا ما ترغب فيه واشنطن وتشجع النظام عليه حفاظاً على سلامته وعلى المفاوضات معها.

منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) وحفاظاً على نظام المصالح الإيرانية - الأميركية، فرضت طهران على أذرعها استراتيجية عدم التصعيد وتجنب الانزلاق إلى مواجهة تبحث عنها تل أبيب، خصوصاً على الجبهتين اللبنانية والسورية، فحماية هذين النظامين وأولوياتها الاستراتيجية ينطبق عليهما ما ينطبق على الداخل الإيراني سياسياً وعقائدياً، إذ إن الظروف الموضوعية تفرض الذهاب إلى الخيار "الحسني"، وهذا معاكس للسردية الثورية التي تمأسست عليها عقائدياً أذرعها في سوريا والعراق واليمن ولبنان، أي ثورة الإمام الحسين بن علي ضد يزيد بن معاوية (فاجعة الطف 680 م)، فالنزعة "الحسينية" في التراث الشيعي وفي موروث أهل البيت هي المؤسسة للجهاد والفداء، إذ شكلت كربلاء عصباً عقائدياً لدى القوى السياسية والثورية الشيعية المرتبطة بالثورة الإيرانية ومناطق نفوذها الخارجي، وهي معاكسة أيضاً لما وصفه المرشد المؤسس للجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله الخميني للحالة العقائدية والثورية لنظامه بقوله "إن كل ما لدينا من كربلاء".

تدرك طهران جيداً معنى سقوط أحد صواريخها في تل أبيب في عقل الأمن القومي الإسرائيلي والأميركي، وحتى لو كان لديها القدرة على ذلك فهي تتجنبه لأن تكلفته عالية جداً. ولاستعادة هيبتها في الداخل والخارج بعد الجروح المعنوية البالغة التي خلّفتها الضربات الإسرائيلية عليها وعلى أذرعها قد تلجأ إلى خيارات بديلة غير مباشرة تقوم هي بتنفيذها، أي ضرب مصالح إسرائيلية في الخارج أو مباشرة عبر أذرعها، وهذا قد يؤدي إلى تصعيد المواجهة في لبنان وسوريا.

معضلة طهران الحقيقة التي لا جواب أميركي عليها، هل امتناعها عن الرد المباشر أو غير المباشر يضمن عدم استمرار تل أبيب في أفعالها؟ والأخطر أن عدم الرد الحازم قد يشجع تل أبيب على الذهاب بعيداً في تطاولها على سيادة إيران وهيبتها، ما يعني أن طهران وإن كانت متمسكة بصلحها مع واشنطن الخيار "الحسني" قد تضطر للسماح لأذرعها بخيار آخر...
 
* كاتب لبناني

اقرأ في النهار Premium