النهار

عن المدينة المكتظة بالحزن والفرح!
عزالدين سعيد الأصبحي
المصدر: النهار العربي
وفق ما تتداوله الروايات التاريخية عن تصدير البن اليمني الشهير إلى العالم، كانت اليمن تحتكر تجارة القهوة عالمياً طيلة ثلاثة قرون من الزمن، ابتداءً من (القرن السابع عشر الميلادي إلى القرن التاسع عشر)
عن المدينة المكتظة بالحزن والفرح!
مدينة تعز اليمنية.
A+   A-
مع كل رمضان أشعر بعودة جارفة لذكريات عدة. نوع من زحمة في كل شيء تشبه زحمة أواخر أيام الشهر الكريم، وأنا عشت أول العمر وأهم محطات الذكرى في مدينة مكتظة بالذكريات، إذا عدت إليها تعود موجات لا تتوقف من حنين وذكرى!. تلك تعز في خاصرة جنوب غرب اليمن، عبارة عن مدينة تفرّ من محاصريها في حضن جبل صبر، وهي تطلّ من خلال القرى الجبلية غرباً، كسيدة للمدن من شرفتها على باب المندب، الذي يشكّل طريقها الرئيسي من مينائها التاريخي المخاء إلى عدن أبرز طريق حيوي سيشكّل علامة مستقبلية في نهوض اليمن والمخاء. هذا الميناء هو نفسه الذى وهبت تعز اسمه لأشهر ماركات (القهوة ) موكا، وتلك قصة تحتاج وقفة.
 
فوفق ما تتداوله الروايات التاريخية عن تصدير البن اليمني الشهير إلى العالم،وكانت اليمن تحتكر تجارة القهوة عالمياً طيلة ثلاثة قرون من الزمن، ابتداءً من (القرن السابع عشر الميلادي إلى القرن التاسع عشر)، وشكّل محل صراع للجيوش والشركات البريطانية والهولندية والفرنسية والإيطالية، فإنّ البن الفاخر الآتي من الجبال يُنقل عبر مرفأ ميناء المخاء في البحر الأحمر ويُختم على العبوات اسم الميناء (موكا)، فذهب الناس هناك في موانئ العالم إلى أنّ الميناء هو مصدر زراعة البن الفاخر لا مجرد مرفأ.
وجلبت تلك الشهرة أساطيل العالم لتقصف الشواطئ اليمنية وتحتل أجزاءً من اليمن عشرات السنين. وما زال اسم "موكا كافيه" يُطلق على القهوة في كل أنحاء العالم.
 
ولا تزال (النداهة) تلك تجذب أساطيل العالم نحو موانئ وجزر اليمن، وكأنّ قدر البلد أن يبقى بين دخان المعارك ونهشاً للأطماع. حيث ذهب البن وبقيت الأساطيل.
 
وتعز مدينة مكتظة بكل شيء، بالبشر والحجر، بالذكريات والحاضر. بالفرح والحزن بالدراويش والفلاسفة، بشوارع الجوع والغنى، بالعشق والخوف. مكتظة بهذا الصمود ضدّ الموت والحصار.
 
وعندما يأتي الليل الرمضاني تكتظ السماء بنجوم لا تشبه النجوم التي في سماوات الآخرين، فلهذه المدينة سماؤها. ترى المدينة تفرّ مذعورة لتحتمي بحضن الجبل الشامخ بمجد ما زالت أكاليله تطلّ من أعين العاشقين. تزاحم أضواء المنازل المطرز بها جبل صبر على ارتفاع ثلاثة آلاف متر، فيختلط على الأرض المكتظة بكل شيء. هل ذاك ضوء المنازل صاعد نحو الفضاء؟ أم هي نجوم السماء هابطة بوجل نحو المدينة؟.
 
هل تصعد النجوم من ضوء المدينة المكلّلة بالعشق، أم تهبط إليها من عليين نحو الشرفات المحاصرة بالخوف؟.
 
وتعز التي أطلق عليها الجميع رصاص بنادقهم، ما زالت تصدح بقصائد العشق وتخنق عبراتها خطابات الوعيد.
 
هي التي ما زالت تحاصر حصار الموت بإنشاد قصائد الحياة. في رمضان يغادر الصمت أجواء المدينة المكتظة، فيختلط الضجيج بصمت الليل وتتجاذبك تناقضات مدينة مكتظة بالتناقض.
 
لا تدري أهي أصوات المنشد المذبوح شجناً هذه التي تأتيك، أم هي صرخة البائع المحاصر بالجوع والميليشيا؟. لا تفرّق بين بُحة صوت مؤذن الحي، من نداء الشباب المقاوم ضدّ القصف.
 
ويختلط عويل مدافع غزاة لا يبارحون هضاب المدينة. ببهجة أعراسها التي لا تنتهي.
 
ورغم كل هذا الزحام وكل هذا الموت المشبع بالحياة، تجد نفسك قصياً ووحيداً.
 
لا حديث يوحّد الناس غير حكايات الحصار من كائنات الكهوف البعيدة، وهذا الموت للأقربين البعيدين، وغياب يتسع كل يوم مداه للأحبة.
 
- كم كُنْتَ وحدكْ
القمحُ مُرُّ في حقول الآخرينْ
والماءُ مالحْ
والغيم فولاذٌ. وهذا النجمُ جارحْ،
وعليك أن تحيا وأن تحيا
كَمْ كُنْتَ وحدكْ.
 
ذاك صوت محمود درويش الحزين، ثانية في ذاكرة الشعر المكتظة بالألم، ولا شيء يكسرنا "فلا تغرقْ تماما... في ما تبقّى من دم...".
 
نودع وطناً يتشظى نحو مدينة تقتلنا بفرحها وقهرها وحصارها. أيها المارون في الكلمات العابرة كما قال درويش عن فلسطينه، خذوا ما شئتم من دمنا وارحلوا. وإذا كان للقدس درويشها، فلهذه المدينة (دراويش كُثر)، يردّدون لغزاتهم الجُدد غنوته: (خذوا ما شئتم من دمنا وارحلوا)، ارحلوا عن (تعزنا) المغروسة في خاصرة يمن يتشظى بجنونكم. وكما قيل هناك ذات حصار، شدّد حصارك فإنك اليوم حرّ. فقد سقط القناع يا يمن الحزن البهيج، (ولا أحد إلّاك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان! فاجعل كل متراس بلداً!).

اقرأ في النهار Premium