للمملكة الأردنية خصائص جغرافية وسياسية وازنة، وهي تقع على تقاطع أرضي واسع يقارب 90 ألف كلم مربع يفصل بين بلاد ما بين النهرين والشام والجزيرة العربية، ويوصل بينها في آن واحد. وكانت للمناطق الواقعة شرق نهر الأردن مكانة مهمة عبر التاريخ، ومثلت أدواراً سياسية كبيرة، كما تجمعت حولها الأهوال على شاكلة واسعة منذ ما بعد استقلالها في عام 1946، وعلى أثر التحولات الكبيرة التي حصلت بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً بعد اغتصاب فلسطين.
تتميَّز العلاقة بين الأردنيين والفلسطينيين بروابط كبيرة، وتكاد العادات والتقاليد أن تكون واحدة لديهما، إضافة إلى الانتماء العربي الخالص، إذ للشعبين الشقيقين مكانة خاصة على امتداد المساحة العربية الواسعة، وحَفَظ التاريخ لهما دوراً متقدماً قبل أن تفرض خرائط القوى الخارجية تقسيماتها على جغرافيا المنطقة، وقد فتح الأردن أبوابه على مصاريعها أمام ضحايا نكبة فلسطين في عام 1948 وإبان عدوان عام 1967.
العدوان البربري الإسرائيلي على غزة والحرب الضروس التي يتعرَّض لها الفلسطينيون على يد قوات الاحتلال، أربكت المجتمعات العربية والدولية، وأصابت بشظاياها المشؤومة الدول المجاورة، خصوصاً الأردن، نظراً إلى ما حملته من مشاهد قتل ودمار وتجويع شنيعة، لم يشاهدها العالم من قبل، وكانت لذلك تأثيرات هزَّت المشاعر العربية والإسلامية برمّتها، لا سيما لدى الشعب الأردني، لما يربطه من وشائج قربى مع الشعب الفلسطيني، وبذلت الحكومة الأردنية مجهودات كبيرة لمساعدة المنكوبين في غزة والضفة، بما في ذلك استخدام الطائرات لإلقاء المواد الغذائية والطبية فوق أراضي القطاع، بعدما منعت قوات الاحتلال الإسرائيلي وصول المساعدات الإنسانية من خلال المعابر الأرضية.
قد تكون حكومة عمان مطالبة بدور أكثر تأثيراً على مجرى الأحداث، نظراً إلى مكانتها السياسية والجغرافية. لكن المؤكد أن حجم ما يجري، وقوة العدوان المدعوم من دول كبرى؛ يعفي المملكة الأردنية من مسؤوليات لا تستطيع تحملها بمفردها، خصوصاً مسألة المشاركة العسكرية، أو تقديم تسهيلات أمنية، لأن ذلك سيدفعها إلى الدخول في حرب لها طابع دولي وإقليمي، وهي مرتبطة في الوقت ذاته بمعاهدة "وادي عربة" مع إسرائيل التي وقَّعت بعد اتفاقيات "أوسلو" التي أنشئت بموجبها السلطة الوطنية الفلسطينية، وأي تراجع عن هذه المُحددات سيعيد خلط الأوراق بكاملها، وقد يوسِّع منسوب النزيف الدامي إلى حدود غير معروفة.
وبصرف النظر عن الموقف من الاتفاقيات التي حصلت في أوسلو عام 1993 وفي وادي عربة عام 1994، بقيادة المغفور لهما الملك حسين بن طلال ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وبرعاية دولية واسعة؛ لا يمكن تجاهل تأثيرات الاتفاقيتين على الإطلاق، رغم الإخفاقات الناتجة من التحلُّل الإسرائيلي من عدد من بنود هذه المعاهدات، خصوصاً لناحية الاستمرار في سياسة الاستيطان العدوانية، وهو ما أجهض كل مساعي السلام، لا سيما خطة قمة بيروت العربية لعام 2002 التي حملت مشروعاً متكاملاً لتحقيق سلام شامل من خلال "حلّ الدولتين" والاتفاقيتين المنوه عنهما أعلاه؛ نصتا على وقف عمليات الاستيطان بالكامل.
مبررات العدوان الإسرائيلي على غزة بكونه دفاعاً عن النفس بعد عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023؛ لا تقوم على الإطلاق، لا بالقانون ولا بالوقائع. والدفاع عن النفس لا ينطبق بالأساس على قوة احتلال، ومقاومة الاحتلال مشروعة بموجب ميثاق الأمم المتحدة. والقرارات الدولية ذات الصلة - لا سيما القرار 194/1948 والقرار 242/1967 – تؤكد أن غزة ومحيطها منطقة مُحتلة. بالمقابل، فإن الاستفراد بقرار الحرب والسلم في هذه القضية البالغة الأهمية، والتي تعني الفلسطينيين والعرب والمسلمين برمتهم؛ فيه مغامرة غير محسوبة، وخطأ في تقدير الموقف. وبمثل هذا المواجهة؛ لا يمكن الركون لحسابات فئوية أو حزبية أو إقليمية. ولا نذكر هذه الوقائع لنعطي أي أسباب تخفيفية للعدوان الوحشي الإسرائيلي على المدنيين في منازلهم وعلى المستشفيات ودور العبادة وفرق الإسعاف على الإطلاق.
يتحمَّل الأردن ضغوطاً هائلة جراء تداعيات العدوان، وربط الأحداث بتصريحات بعض الجهات الخارجية يؤكد أن شيئاً ما يحضَّر للمملكة. ومن خلال مراقبة بعض الشعارات التي يرفعها متضامنون مع ضحايا غزة في عمان، يمكن إدراك وجود خطة لزعزعة استقرار الأردن. وسبقت ذلك تصريحات لمسؤولين من غزة، ولقيادات في ميليشيات عراقية ولبعض التنظيمات غير الرسمية في جنوب سوريا أعلنت نيتها القيام بأعمال أمنية من خلال الأراضي الأردنية، أو دعم مجموعات أردنية معارضة بالسلاح والمال لفتح جبهات ضد الاحتلال عبر الحدود الطويلة التي تفصل بين المملكة و"إسرائيل" الممتدة على مسافة تزيد عن 310 كلم.
والوقائع السياسية المرافقة للحرب العدوانية على غزة، ساعدت بعض المُتفلتين من القانون على الحدود الشمالية في تطوير حراكهم الذي يخفي نية بنشر الفوضى في الأردن، ويضاعف مشكلات التهريب التي تستغلها جهات معروفة لتحقيق ربحية مالية غير مشروعة، وإحداث بلبلة اجتماعية. وقد ثبُت أن عمليات التهريب تجري بطرق ووسائل متطورة ومدروسة، وتشمل نقل مواد ممنوعة ومخدرات وسلاح. والأردن قد يكون مستهدفاً من هذه الأعمال الخارجة عن القانون، أكثر من إسرائيل. ويبدو واضحاً أن قوىً مؤثرة تحاول اختراقها.